الدَّهْرُ هو: الزمن.. واللهُ هو الدهر.. وفي الحديث القدسي، يقول الله عز وجل: (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبّ الدّهْرَ وَأَنَا الدّهْرُ أُقَلّبُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ). وفي لفظ: (يُؤذِيني ابْنُ آدمَ يقول: يا خيبة الدّهْر! فلا يقولنّ أحدُكم يا خيبة الدّهْر فإنّي أنا الدّهْرُ أقلِّبُ ليلَهُ ونهاره فإذا شئت قبَضْتهُما). ومعنى (يؤذيني) أي: ينسب إليّ ما لا يليق بي. و(أنا الدهر) أي: مُدَبِّرُ الزمن ومصرِّفه. و(قبضتهما) أي: حبستهما. أرى أن الدهرَ بوصفه الكلي ثابتٌ لا يتغير، وإنما دلالاته هي التي تتغير.. فالله -سبحانه وتعالى- جعل الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ أدلة على الزمن، وليست هي الزمن نفسه. أي: أنها في تغيُّرٍ وتبدُّلٍ وتسابقٍ دائم، بينما الدهرُ ثابتٌ لا يتبدل ولا يتغير. قال تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).. لا شيء في الوجودِ ثابت! كلُّ شيءٍ يتحرك، ما عدا الزمن بمفهومه الشامل، فإنه ثابت لا يتغير.. وإن امتداد الظلّ أو قِصَره لا يعني أن الزمن يزيد أو ينقص، بل علاماته هي التي تزيد أو تنقص، بينما الزمن ثابت.. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دليلاً). فالشمسُ، وكذلك القمر دليلان على الزمن وليس هما الزمن نفسه.. وتعاقب الليل والنهار دليلٌ على أن الأرض تدور، وليس دليلاً على أن الزمن هو الذي يدور.. كذلك دوران بقية الأفلاك؛ دليلٌ على وجود الزمن، وليست هي الزمن نفسه، فمثلاً: نلاحظ أن مظهر الزمن على كوكب المشتري ليس كمظهره على زحل، ومقدار اليوم على كويكب بلوتو ليس كمقداره على كوكب نبتون.. واليوم عند الله -تعالى- يساوي ألف سنة على الأرض؛ ما يعني أن مظاهر الزمن متغيرة من مكان إلى آخر، بينما الزمن الكلي ثابت لا يتغير ولا يتبدل في الكون كله.. وكذلك نلاحظ أن الليل والنهار يزيدان وينقصان على مدار العام، لكن لا يعني هذا أن الدهرَ زاد أو نقص! كلا، بل هو ثابت.. وكذلك المناخ يتغير بتغير الفصول الأربعة، بينما الزمن ثابت لا يغيره شيء.. وكذا مواعيد المد والجزر تتأثر بحركة القمر، بينما الزمن نفسه ثابت لا يتحرك، بمعنى أنه لو كان الوقت (شمساً) على شواطئ بحر الشمال أي: لا مد فيها ولا جزر؛ فإن المظهر يكون (قمراً) على شواطئ البحر الأحمر، فتموج مداً وجزراً؛ ما يعني أن مظاهر ودلالات الزمن تتغير بينما الزمن نفسه ثابت لا يتغير.. وحتى حينما نقول: إن زماننا الحالي أصبح سريعاً؛ خطأ، فالزمن ثابت لم يتغير، وإنما الذي تغير هو وقع الزمن بفعل تغير وسائل النقل والاتصال في زماننا المعاصر. كما أن عُمْرَ الإنسان: ليس هو الزمن الذي نحسبه ونحصيه، بل هو مظهرٌ من مظاهر الزمن، أي أننا نحن كبشر تتغير مظاهرنا من الطفولة إلى الرشد إلى الكِبَر، كدلالة على الزمن، بينما الزمنُ ثابتٌ لا يكبر ولا يصغر ولا يشبّ ولا يشيخ.. وكذا الأشياء من حولنا: تبلى وتندثر وتصير آثاراً، كدلالة على فعل الزمن، وليس على تغير الزمن. نحن لا نرى الدهر، ولكننا نرى مظاهره.. كذلك نحن لا نرى الله -تعالى- وهو لا يتغير، ولكننا نرى دلالاته في مخلوقاته، فحينما قال الله جلّ شأنه: (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبّ الدّهْرَ)؛ فإنما ذلك لِعِظَمِ شأن الزمن عند الله -تعالى-، ولكننا لا ندرك أهمية الزمن في حياتنا! إلا أنني لا أدري كيف تجرأ «المتنبي» فقال: قبحاً لوجهك يا زمان كأنه وجهٌ له من كل قبح برقع! فعلينا ألا نفعل كما فعل المتنبي في تجرُّئِه على الله -تعالى- فنعيب الزمن، ونقبحه، أو نتطاول عليه بالسباب واللعان، كأن يلعن أحدُنا الساعة التي قابل فيها (فلاناً)، أو اليوم الذي تزوج فيه، أو الوقت الذي رأى فيه ابنه أو ابنته، أو أن يقول أحدُنا: جار عليّ الزمن، أو هذا الزمن غدار؛ فمسبَّة الزمن هي مسبة لله -تبارك وتعالى- ولهذا كانت مؤذية له جَلّ جلاله. وقبل أن أودعكم، نريد أن نفكر معاً: ما هي (الرّيح)؟ فنحن -أيضاً- لا نرى الريح، ولكننا نرى دلالاتها، وهي أقوى مخلوق على وجه الأرض على الإطلاق.