تحدثت يوم أمس عن الشغف، الذي كان محور لقاء شبابي نظمته جمعية TEDx KFUPM في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وخلصت مقالة يوم أمس على أن الشغف يولد الإبداع. إنه شعور جميل لا يؤرقه ويزعجه إلا الرتابة والجمود وأسر الألفة من بعض أولئك النفر الذين أفنوا عمرهم، وهم يثمنون من يعرف الأجوبة لتلك الأسئلة القديمة والمكررة أكثر ممن يثير – بجرأة وتحد وعناد – زوبعة من الأسئلة الجديدة في مجالات بكر، ونطاقات مجهولة لم تطأها بعد قدم باحث جرئ، و شكوك متسائل. واستمع لقصة ذاك الباحث عن شغفه، فقد ظنه في العمل التطوعي فخاضه وجربه، ولكنه لم يجده فيه، وانتقل في بحثه إلى الرسم، والنحت، والتصوير، والمسرح، والرحلات، ومحطات كثيرة، ليجد شغفه بعد بحث مضن، ويحدده في كلمات: « شغفي» هو العمل مع الأطفال وعرض العلوم لهم بصور ميسرة ومبسطة، وعندئذ أسس شركة لترجمة هذا الشغف وتسخيره للنفع الإنساني، واستمع لصوته المتهدج بمزيج من المشاعر حين يحكي قصة شركته، ونموها المتعثر، وثورة الشك في رحلته، وقربه من اليأس، وثباته على « شغفه» حتى أحرز نجاحاً كبيراً في هذه الصناعة المهمة. وأخر يحكي لنا كيف ابتعد عن شغفه حينما بهره تخصص الطب وتقليد الأقران، واكتشف بعد تركه دراسة الطب أن شغفه في البرمجة، فشارك صديقا له، وعملا على كتابة برنامج تطبيقي بديع للهاتف النقال الذكي:iPhone application، ويعنى هذا البرنامج بسؤال المستخدم عن مشاعره، وتمكينه من المشاركة بصورة ومعلومة معبرة عما يشعر بداخله. وأختم عرضي بما استوحيته من ذلك اللقاء الرائع، بعنوان مثير ذكره أحد المتحدثين الأفاضل:Terra Incognita، وهي كلمة لاتينية تعني: أرض أو عالم المجهول، ولقد بحثتت عن أصل هذه الكلمة فوجدت من يعزوها إلى العالم الجغرافي القديم: بطليموس، الذي كتبها واستعملها في محاولاته البدائية لرسم خرائط للأرض، فالأراضى التي لم تكتشف في زمنه هي عالم مجهول، ولقد أعيد استخدامها من قبل الأوروبيين – في عصورهم المظلمة – قبل أكثر من خمسة قرون في الخرائط القديمة عند ترجمتهم لأعمال بطليموس، ولهذه الكلمة نظائرتكتب في الخرائط الأوروبية القديمة، تشاركها في الإشارة على الخرائط والكتب إلى العالم المجهول، والذي يرتبط في الخيال بالمخاوف والمخاطروالأهوال والأساطير مثل: Mare Incognitum ( البحار المجهولة)، HIC SVNT DRACONES ( إشارة على الخرائط باللاتينية تعني: هنا يعيش التنين النافث للنار من فمه)،LEONESE HIC SVNT ( تعني هنا تعيش الأسود). لعل البعض يتساءل، وحق له: ما صلة) Terra Incognita تعني: العالم المجهول المملؤ بالأهوال والأسود والتنينات والأفاعي الضخمة) بحديثنا عن «الشغف»؟ لعل إجابة هذا السؤال خير ما يختم به هذا الموضوع المهم، والذي أسعدني طرحه في الجامعة، حيث الشباب، والأمل، والمستقبل. إن البحث عن « الشغف» رحلة خلف المجهول! والمجهول يرتبط في عقولنا – عادة – بالخوف، فالإنسان عدو ما يجهل، ولقد ضخم وبالغ الإنسان القديم ( والحديث) في وصفه هذا المجهول، وربطه بالخوف، الذي أعاق الباحثين والرحالة والمكتشفين لقرون عديدة، فالخوف كان أكبر عائق في طريق اكتشاف العالم، والمهمة كانت مرعبة ومستحيلة، إذ تقتضي السفر إلى عالم يسكنه تنين عملاق ينفث اللهب، وأفاع ضخمة لها عشر رؤوس وأنياب كالرماح، وأسود متوحشة لا تقهر. «الشغف» والبحث عنه، واتباع ندائه إلى المجهول تجربة مخيفة، فقد يضطر من يبحث عن « شغفه» أن يترك جامعته، أو يغير مجال تخصصه، أو عمله ومصدر رزقه، وهذا مجهول مخيف، ولا شك أنه يخيف صاحب الشغف نفسه، ويخيف بعض المؤسسات التعليمية الممنهجة والجامدة، وجهات العمل المقننة، فلابد – حسب خيالنا المخيف – من شهادة علمية لكي يقبل بك العالم، ولابد من وظيفة مضمونة لكي تحصل على رزقك، والعالم لا يحترم من يسعى وراء هواية وخيال سخيف، والأمن الوظيفي خير من خيالات وتهيؤات، والقدرات الحقيقية لا يقيسها إلا مستوى الإنجاز الدراسى الممنهج والمقولب، وأنى لشاب صغير قليل الخبرة أن يعتقد بأنه أفضل وأذكى من دكتور جامعي أفنى ثلاثين سنة من عمره في تدريس مواد علمية معقدة، ولابد أن يعي هذا الشاب حقيقة ( ليست صحيحة في قانون « الشغف») بأن درب النجاح واحد لا يتغير، ولا بديل له: دراسة جامعية، شهادة، وظيفة مضمونة، وفرصة هزيلة ضئيلة للأعمال الحرة لاتتسنى إلا للقلة القليلة والمحظوظة، فلا يوجد في الدنيا إلا بيل جايتس واحد! إن جملة Terra Incognita التي أعاقت بأساطيرها المخيفة التقدم العالمي الأوروبي لعدة قرون تذكر صاحب « الشغف» دائماً وأبداً بحقيقة مهمة في رحلة بحثه عن « شغفه»: إن الخوف من المجهول يدفع عامة الناس إلى المبالغة في تقدير حجم الخطروالمخاوف مبالغة شديدة وغير واقعية، ولكن صاحب « الشغف» يخبرنا بكل ثقة في الله: أن المجهول ليس مخيفاً إلى هذه الدرجة، وأن سلاح الاستعانة بالله يقوي صاحب «الشغف الأصيل»، وينزع من فؤاده الخوف من تنين عالم المجهول وأفاعيه وأسوده الخيالية، ولقد اختفت كلمة Terra Incognita من الخرائط الأوروبية ومن قلدها في القرن التاسع عشر، بعد اكتشاف الأمريكتيين وأستراليا والقطبين والأمازون …، وهنا نطرح سؤالاً مهماً لصاحب «الشغف العنيد» وجمهورالجامدين الذين يخافون من تغيير البحث عن «الشغف» لقوانين اللعبة المعتادة والموروثة ( مجازاً): فضلاً أخبرونا، أين ذهبت تلك التنينات النارية، والأسود القاتلة، والأفاعي العملاقة، والحيات الضخمة متعددة الرؤوس التي كانت تسكن – ما كان يسمى – عالم المجهول وبحاره؟