هؤلاء الذين يحكمون في الشعر، أو يُحكَّمون فيه كثيرًا ما أعذرهم بقدر ما أشفق عليهم، فهم في الواقع يعلمون – إذا كانوا يعلمون- أنهم يتصدوْن لما هو فوق المعيار، ذلك أن الشعر الذي تقف عقولهم، طاقتهم اللغوية في مواجهته لم يصدر عن نظامٍ معرفيٍ منضبط متشابه، إلا باعتبار خامة اللغة و نظامها فقط، لا نظام العقل الشعري الفرد. كل قصيدة تنطوي على نظامها المعرفي المستقل، وعلى ذروتها الجمالية المختلفة أو ذراها الجمالية المختلفة. أحيانًا البيت الواحد من الشعر يكتظ بأكثر من ذروة جمالية، بأكثر من ثقب لغة أسود. هذه الثقوب اللغوية السوداء لها نظامها الخاص، ولها أيضًا حيز أثر يبتلع الذين يطوونه فضلًا عن الذين يريدون تجاوزه أو الاستعلاء عليه. إن الحيز الجمالي للقصيدة أو النص الشعري يستعصي في الحقيقة حتى على العقل الناقد في الغالب الأعم. و نحن ما زلنا ننظر إلى النقد بوصفه نشاطًا حاكمًا على الشعرية، فيما هو عالة عليها و أقل منها قيمةً و أقرب غوْرًا. الذين يظنون الناقد الأدبي أو الناقد المتذوق قادرًا على صناعة التراتب للقصائد التي ينظر فيها، إنما يظنون وهمًا مستحكمًا، إنه في الواقع –الناقد- لا يعمل إلا بمبرر واحد، هو الصورة التي صنعها لنفسه في الذهن العام، ليس بالمبرر المعرفي الجمالي المحض وحده. أنا لا أنفي أن المُحكَّمين في الشعر قد يبلغون – أحيانًا- أن يكونوا متاخمين لسطوة النص الشعري حين تنطوي عقولهم -هم- على بصمة ذهنية لغوية متفردة موازية -للعلامة اللغوية الفارقة- التي نسميها نصًا شعريًا، غير أنهم مع هذا يظلون في اضطراب واحتراز وتردد و هم يمايزون بين النصوص، لأن ائتلاق الشعر في الذهن الذي يقاضيه يتفاوت، إنه ائتلاق كمي يأخذ هيئة الدفقات التي قد تفوت على العقل أحيانًا ولا يتبينها إلا فيما بعد، وهو لا يقول شيئًا قدر ما يخلط نظام اللغة بنظام العقل الشعري. إن طاقة الشعر تعني فيما تعني أن ينطوي عقل الشاعر على إمكان ظرفه الفرد، الظرف الفرد هذا هو كنز الصناعة الشعرية. إنه يحول اللغة على سياقات منزاحة حين يعجنها بصفته هو، وإلا كيف نفهم قول المعري: ليلتي هذه عروسٌ من الزنج عليها قلائدٌ من جمانِ حتى حقائق الأشياء تتبدل، لأنها في الشعر لا تصدر عن نظام معرفي قدر ما تصدر عن نظام وامض عابر غير مستقر. إنه فقط يتحول إلى صياغة وصورة لغوية وسياق منفلت إذا نحن أخضعناه لنظام اللغة المتداول المعتاد. إذا كان الشعر لا يقول حقائق، لكنه يصنع حقيقته هو، و لا يصف منطقًا، لكنه يصنع منطقه هو، فإن هذا يعني كونه معرفةً غير معيارية، أي أنه لا يحسن بنا أن نحاكمها بميزان الصواب و الخطأ، أو الصدق و الكذب، أو الحقيقة و الخرافة، الشعر لا يؤسس لشيء إلا لنفسه هو، و الغرض الشعري شيء مختلف. إذا اتجه الشعر إلى الغرض يخرج عن كونه شعرًا و سياقًا منزاحًا إلى كونه سياقًا مسخرًا خادمًا للواقع. هذا ليس شعرًا، هذه فكرة أغراض الشعر، و كثيرًا ما تكون فخًا تقع فيه لجان تحكيم الشعر وهي لا تشعر، فيذهب حكمها إلى الغرض لا إلى الشعر. قد تكون هذه مسألة أخلاقية أو مسألة مبدأ متحيز أو موقف، لكنها على كل حال ليست شعرًا. و أنا مع الفكرة التي تقول إن الشعر نادر حتى فيما نسميه شعرًا. إنه ومضة خلط مخصوص فيما بين اللغة و الخيال، لكن نظام هذا الخلط هو نفسه نظام كفاءة العقل الشعري. أعني أنه أيضًا نظام مستقل بصفته، و صفته هذه أن يكون قادرًا على صناعة القرائن المعرفية في صياغاته الشعرية المبتدعة. كل كلام قد نجد ما يشبهه، لكن الكلام الشعري في العادة يكون بصمةً لغوية و قبل ذلك ذهنية – في عقل الشاعر- لم تُقل من قبل و لن تُقال من بعد، إلا أن تُردد على سبيل الدهشة و المتعة و التداول –شاهدًا نحويًا أو جماليًا- و إذا كان الذين يحكمون في الشعر يأخذون هذا في اعتبارهم فإن الأزمة الأولى التي تواجههم هي أزمة الحياد و أن تنعتق آلتهم الجمالية من أي مؤثر –دون شعري-. و لذلك كانت تُغيب عنهم أسماء الشعراء و تحضر نصوصهم و أعمالهم. اللغة وحدها هي التي تقول لهم: أنا و أنتم نتقاضى. إلا أنه حتى الأغراض الشعرية ينبغي أن تغيب، و ألا تتحول إلى فخ مخادع. أحيانًا يستسهل عقل المُحكَّم النظر في الغرض الشعري فيتحول إلى تابع أكثر منه محكمًا أو قائلًا ما يعتد به في الفرادة الشعرية. هذه مستعصية، بحاجة إلى تقليب، العقل يستنفد معها كل كفاءته –لغة و دهاءً بلاغيًا و حسًا جماليًا- و قل ما شئت. و إذًا فجوائز الشعر من حيث هي فكرة، إنما تشرفُ بالشعر لا يشرفُ بها، لأنها تعي أو ينبغي أن تعي ما هو الشعر؟ هذه اللغة البكر الصافنة التي لم تطمث، و هي مع ذلك موازية لقيمة الشعر حين تتوجه إليه لا إلى سواه . غير أن الذين يوجهونها ينبغي أن يحذروا من أن يتحولوا إلى أتباع و هم لا يشعرون، عليهم أن يستعملوا دهاء عقولهم ليكونوا السادة السادة، و الواهبين الواهبين.