من أعجب صفات (شعرية الشعر) أنها صفة عقل لا صفة لغة فحسب ، وبالتالي فهي صفات عقول لا صفات أدوات ، أي إن اللغة ليست هي التي تشفع للصياغات اللغوية لتكون شعرًا ، وهذه مسألة يوشك أن يتواطأ عليها كل اللغويين والجماليين بغير استثناء. وأنا أردت أن يكون عنوان المقال مقطعًا شعريًا من قصيدة لشاعر كبير (الأمير بدر بن عبد المحسن) في سياق استكمال الحديث عن الشعر الشعبي ليكون -المقطع- شاهدا جماليا على عدم صحة التلازم بين شعرية الشعر وصفة اللغة ، اللغة في الحقيقة -أي لغة حتى العاميات- إمكان مفتوح لتتحول إلى شعر ، لكن شرط تحولها إلى شعر هو شرط في العقل ليس شرطا خارج العقل. وإذا كان السؤال عن جماهيرية الشعر الشعبي سؤالا عن الكثرة ، ومبرر الكثرة ، فإني لا أرى حجم الانتشار مرتبطا بالمسألة الجمالية قدر ما هو مرتبط بالمألوفات. تآلف معظم جماهير الشعر الشعبي مع اللهجة هو الذي يسوقهم إليه أكثر مما يسوقهم العمق الأدبي فيه -إن وجد- وهو لا يوجد إلا في نماذج محدودة لا تعطي فرقا كبيرا في حجم (الهيلمان) الذي يشبه الوهم في قيمة معظم الشعراء العاميين ، وليست تلك النماذج مبرر الكثرة بأي اعتبار ، وإذن فإن انتشار الشعر لا يُرد إلى شعرية الشعر إلا بشرط متعذر ، هو أن يكون العقل عقلا لغويا خالصا موازيا للعقل الذي يصدر عنه الشعر ، وفيما عدا ذلك فالكثرة تعزى إلى طبيعة الجماهير العامة لا إلى طبيعة عقل الجماهير الجمالية ، ومن هنا تقع القيمة في مأزق معرفي ملتبس ويقع العقل أيضا في ضلالات التصور الخطأ ، أن القيمة تعني الكثرة وأنها مرادفة لها ، مع أن القيمة الحقيقية في الواقع تنحاز إلى الاختلاف الخلاق وهو نادر محدود. هل شهرة الأمير بدر بن عبدالمحسن ، مثلا ، -وهو شاعر عبقري- مرتبطة بالشعرية العالية في شعره؟ في ظني أن الانتشار القوي لشعر قوي مثل شعر الأمير بدر يرد إلى كونه تحول إلى شعر مُغنّى -وقس على هذا- الغنائية كانت جسرا أوصل شعر الأمير بدر إلى الناس ولو بقي شعره العبقري دون غناء لما وصل إلى الناس بهذه الكثرة والجماهيرية. هذا يعزز فكرة أن العقل -الآن- بحاجة إلى وسيط يوقظه ليلتفت إلى الشعر وهو بعد ذلك قد يهتدي لمعنى الشعرية وقد لا يهتدي فيقف بين متعة اللحن -حال الغناء- وتخفي المعنى الذي هو معنى تخيلي ملتبس. هل الغناء هو الوسيط الأفضل؟ ليس كل شعرٍ قابلا للغناء. في ظني أن الصناعة الإعلامية هي وسيط مهم أيضا وهو ما يحدث للشعر الشعبي -ما كان شعرا وما كان شبيها بالشعر وما كان أفكارا منظومة-. طبيعة الشعر التي هي طبيعته/ أنه فضول انتقائي للعقل واللغة ، وأنه غير جماهيري ، وأنه متعة فائضة ، وجماهيرية الشعراء ليست بسبب الشعرية في شعرهم قدر ما هي بسبب الحواشي وفيوضات الواقع والهم الإنساني في شعرهم ، حتى عند شعراء الفصيح (الغلابى) ، وهو ما ينفي فكرة الفن للفن لأن الحواشي وفيوضات الواقع هي من الطبيعة الغالبة للغة على شعرية اللغة ، وإلا كانت الشعرية غيابا في الغياب.