لم يكن العربي الأول في منزلةٍ أدنى من الشعر، و لم تكن المسافة بين عقل الشاعر وعقل جمهوره أكثر من الصفر، لأجل ذلك كان الشعر معادلاً ظاهراً للعقل الجمالي العام. العقل الجمالي العام هذا هو أزمتنا اليوم، إنه عقل ضعيف متراجع مقلد و غير أصيل، وهو نفسه العقل الذي يوحي لنا أنه ذو حاكمية جمالية على الشعر، على غير ما ينبغي أن يكون. هذه الحاكمية الجمالية هي التي حوّلت الشعراء إلى طبقات، بدءاً من طبقات ابن سلام الجمحي إلى طبقات اليوم، و هو وهمٌ أوقع العقل العربي فيه الالتباس في فهم قيمة الشعر و حدّه الجمالي. ربما الفرق بين طبقات ابن سلام الجمحي و طبقات اليوم أن ابن سلام كان يتحدث عن طبقات تتناظر وتتوازى، فيما أهل حاكمية الشعر اليوم يحدثوننا عن الطبقات التي يركب بعضها بعضاً، و هي حيلة غير معرفية. إنها حيلة كاذبة مخادعة متعصبة تريد تحويل.. الشعر العربي العظيم.. إلى مشيخة لها أتباع. هؤلاء في الواقع أتباع صخاّبون مشاغبون طبّالون، ليسوا في المنزلة التي تجعلهم عقولاً مكافئةً لعقل اللغة الجمالي المطلق كما كان العربي الأول. إننا إلى يومنا هذا لم نعِ أن شعرية اللغة اكتظاظ بلاغي مطلق و أنها جنوح جمالي مطلق، و أنها فوق عقل اللغة العام نفسه، إن من عبقرية هذه اللغة أنها بقدر ما تكون إمكاناً مُشاعاً للناس، تكون أيضاً استعلاءً مطلقاً عليهم، فيكونون دونها –إلا حين يتماثل العقل- لا يبلغون سبر كونها المُستعلي. إنني أشبه غموضها المدهش حين تكون شعراً، و أشبه غرابتها اللذيذة بغرابة ظاهرة (الثقوب السوداء) في فيزياء الكون. الكون له قانون و الثقب الأسود له قانونه الخاص الجبار المتفرد، إنه ذو صفة مخصوصة مباينة لما حولها، لا يمكن أن تلتم كتلة هائلة من المادة في حجم صغير جداً إلا بتحولها إلى ثقب أسود. علماء الكون يقولون: لكي تتحول أرضنا بحجمها الهائل إلى ثقب أسود، فإنه لابد أن تنضغط كتلتها كما هي لتكون بحجم الليمونة الصغيرة. اللغة أيضاً كون منطوق، وحدات أولية تتجاور، لها نظام خاص لكنها حين تتحوّل إلى شعر تكون قد تحوّلت إلى كون في الكون، إلى نظام في النظام، إنها تنفك عن صفة نظامها المشترك لتتحوّل إلى سطوة جمالية مذهلة. هذا المعنى في الواقع سمّاه الجماليون .. الانزياح .. تنزاح المفردة عما وُضعت له في الأصل. هم يقولون هذا، لكن الذي أظنه أن السياق هو الذي ينزاح، ليس المفردة، لأنه لا يتحقق شرط التحوّل إلا بتحوّل مجموعة من العوامل أو الوحدات. وحدات اللغة المنطوقة تلتئم في سياقٍ لغوي، في حدٍ من صورة اللغة منظوم، هذا الحد المنظوم أو السياق بصفته المخصوصة هو الذي ينزاح باكتظاظ المعنى التخييلي و ينقل اللغة إلى كونها الجمالي أو الشعري، فوق كونها العام أو المشترك. و لكي أوضح هذه الفكرة بالمثال: فإن قول المتنبي ( شرقتُ بالدمع حتى كاد يشرقُ بي ) لا يبدو شعراً بانزياح المفردات فيه لأن اكتظاظ اللغة هو في قوله ( يشرق بي ). كل التركيب الآخر حواشي، وتقلب للمفردات في سبيلها إلى دفقة الشعر، إلى ثقب اللغة الأسود. إن اللغة عند هذا الحد اللغوي تلتئم، لينزاح السياق، فأين انزياح المفردة؟ لقد اختلط على البلاغيين انفكاك المفردة عن تاريخ معناها المألوف فظنوه انزياحاً مع أن هذا الانفكاك تحوّل إلى التئام بطبيعة جديدة، لم تعد المفردة معنى معجمياً، هذا صحيح، لكنه تحوّل مقيد و لو أنها نُزعت من السياق لبقيت كما هي في تاريخها التقليدي. و إذاً فإن قول المتنبي ( حتى كاد يشرق بي ) هو انزياح سياق، ( يشرق بي ) هذه لم يقلها أحد قبل المتنبي و لم يقلها أحد بعده، و السياق هذا ابن شاعرية المتنبي، ابن عقله الجمالي الفذ. ما كان ممكناً أن يلده سواه. هذا السياق و كل سياق شعري لا يمكن تحويله إلى (رقيق معرفي) بمحاولة تفسيره، هذه فكرة ما يمكن إدراكه و لا يمكن وصفه. و أريد أن أؤكد لكم أن أتباع مشيخة الشعر الذين يظنونه مشيخة يريدون تحويله في الحقيقة إلى معرفة هجينة، يوهموننا بتفسيرها و إدراكها حين يتجملون بمفرداتها، و هم دونها بكثير. إنهم أتباع، و إنهم السادة الخدم، و إنهم العتقاء المملوكون، و إنهم الشحاذون الواهبون، فهل يريدون أن يكونوا شبهاً لما لا يشبههم؟ كيف يمكن استنقاذ فكرة جوائز الشعر من هذه الفكرة التي حدثتكم عنها؟ الحقيقة أن هناك فرقًاَ لكنه مشروط و سأعود إلى هذا إن شاء الله .