الفرد يأتي تالياً للوجود الاجتماعي، فهو يولد داخل عائلة تنتمي لمجتمع ما، له تصوراته الخاصة بالحياة والعالم وله نصوصه الدينية المقدَّسة، وبالتالي فإنه يخضع للمنظومة الاجتماعية، «ومع ذلك لا يتقيد كل الناس في أي مجتمع بالسلوك المقبول المتفق عليه، والأصول المرعية كل الوقت» كما يرى الأميركي بيتر فارب في كتابه «بنو الإنسان»، ثم يشير، كشكل من أشكال التسامح المصاحب لأي هيمنة اجتماعية، إلى وجود تسامح اجتماعي مقابل أنماط الخروج الفردي التي تأتي على شكل عمل الفرد على رفض التأهيل الاجتماعي، تحت وطأة الشعور بفرادنيته، ويكون هذا التسامح مقابل الأفراد الذين: «لم يكن في سلوكهم ما يخرق عرفاً، أو يخل بقيمة اجتماعية». إن أشكال مقاومة أي فرد للمنظومة الاجتماعية تنبع من مدى وعيه بها، وهي مقاومة نسبية تختلف من فرد إلى آخر بحسب وعيه، لأن الغالبية يجدون في الخضوع لهذه المنظومة الاجتماعية شكلاً من أشكال اكتساب امتيازاتهم داخل المجموعة، فيتنازلون بذلك عن وعيهم الفردي مقابل الوعي الاجتماعي؛ لأنه يحقق لهم مكاسب يجدونها مناسبة لتطلعاتهم: «قابل دوركايم الوعي الاجتماعي بالوعي الفردي، وشدد على أسبقية الأول، الذي يشتمل، حسب رأيه، على تجليات الثقافة الاجتماعية من عادات وتقاليد وأعراف ومعتقدات... إلخ. ولما كان وجودها على شكل تصورات جماعية، فإنها تعدّ وقائع موضوعية تتشكل في المجتمع وتتطور بتطوره، دون تدخل من جانب الفرد وبمعزل عن وعيه وإرادته». وهنا، نجد أن في خضوع الغالبية من أفراد المجتمع للمنظومة الاجتماعية ما يدلل على طريقة عمل الجماعات في سبيل الحفاظ على طبيعة وشكل العلاقات داخلها، فالعلاقات الاجتماعية تولِّد أنماطاً لإدراك العالم تسهم في الحفاظ على تلك العلاقات، فهي التي تحدد شكل ونمط إدراك العالم بالنسبة لأفرادها لتضمن لنفسها البقاء، وغالباً ما يكون هذا الإدراك ذا صلة بالمقدّس، فدوركايم يرى أن: «الطقوس الدينية تؤدي وظيفة إيجابية من خلال دمج الفرد في الجماعة»، لكنه يدرك خطراً مثل هذا الدمج عندما يلمّح إلى أن: «زيادة إحساس الفرد بالانتماء إلى الجماعة سيدمر نمط الحياة الفردي». إن طبيعة التشكيلات الاجتماعية وتمظهراتها ذات علاقة بالإرث الاجتماعي، حيث أشار ج. بلدوين أحد مؤسسي علم النفس الاجتماعي، إلى وجود شكلين من الإرث؛ حين: «قادته دراساته إلى القول بوجود نوعين من الوراثة: الوراثة الطبيعية والوراثة الاجتماعية. ويقصد بالوراثة الاجتماعية عملية انتقال الثقافة الاجتماعية مبنىً ومعنىً عبر الأجيال». لكن هذه المنظومة المتوارثة، وبالتالي هذه الأسبقية الاجتماعية، مهددةٌ بوجود وتنامي التطور التكنولوجي والتسارع المعرفي ما يجعل من اعتقاد الناس بأن المنظومات الاجتماعية المتوارثة ثابتة اعتقاداً زائلاً، لأنها في أفضل حالاتها لا تملك إلا أن تتنازل عن بعض هذا الإرث لتستمر، يقول ألفن توفلر في كتاب «العلم ومشكلات الإنسان المعاصر»: «إننا نعيش اليوم في النصف الثاني من تاريخ الإنسانية. ولا يوازي ذلك إلا انتقال الإنسان من حالة البربرية إلى حالة الحضارة، وفي هذا القرن نجد أن الحالة العامة للحياة وسرعة التحرك فيها وحتى حس الإنسان بهذه الحياة من زاوية مفاهيمه عن الزمن والجمال والفضاء والعلاقات الاجتماعية تتعرض لهزات عنيفة»، لذا فإن التطور التكنولوجي يسهم كثيراً في وعي الأفراد بأشكال الهيمنة الاجتماعية وبالتالي مقاومتها، فعدم الوعي بالتغيرات المتسارعة يجعل من حراس القيم الاجتماعية والمعتقدات والأعراف المتوارثة مجموعة ممن: «يفوتهم وعي هذا التغير وسرعته ومداه، ونراهم يتمسكون بواقعهم وفي حالات كثيرة ينكفئون إلى الماضي... والخطورة التي تنجم عن مثل هذا الموقف هي أنهم يسهمون في جعل مجتمعاتهم تعيش هذا العصر دون أن تعاصره، ويعرضونها إلى صدمات التغيير وصدمات المستقبل وما ينتج عن ذلك من مآسٍ وويلات». فهم، بحكم إرادة الحفاظ على الإرث وتداوله عبر الأجيال، يحاولون حفظ الخصوصية الثقافية من خلال آليات دفاع تقوم على العزل، أي عزل مجتمعهم عما يحيط به، والتحذير من مغبة التفاعل مع العالم من حولهم، وهنا يمكن الاستدلال على وجود مثل هذه المجتمعات من خلال خطاباتها الدينية والإعلامية، وربما السياسية أيضاً، التي تربط بين قداسة النص الديني والتهديدات التي تراها من خارج مجتمعها، لهذا تنتج مقولاتها المقدسة التي تصبّ غالباً في كون الخطاب الديني أياً كان مصدره غير قابل للمراجعة، وبالتالي فإن من يمثلون هذا الخطاب، أي رجال الدين، يمتلكون حصانة تنبع من اشتغالهم على حراسة التراث وتسييجه. وفي سبيل سعيهم للحفاظ على المنظومة الاجتماعية المتوارثة لدى أفراد المجتمع فإن السلطة الدينية/ الاجتماعية تجعل من إرثها الاجتماعي إرثاً شرعيّاً من خلال ربطه بالمقدّس، فيتحول الإرث الاجتماعي، بدوره، إلى إرثٍ لا يقبل المساءلة.