تمكِّننا تقنية النانو من التلاعب والتحكم بالمواد على المستوى الذري والجزيئي. ولنوضح الفكرة أكثر بإمكاننا أن نقول إن طول النملة يساوي خمسة ملايين نانومتر وطول خلية الدم الحمراء 7500 نانومتر وطول الدي إن إيه يساوي 2.5 نانومتر, وعلاوة على ذلك, فإن النانومتر الواحد أصغر بمليون مرة من رأس الدبوس, هل تخيلتم حجم النانو ومدى تناهيه في الصغر. بزغت فكرة النانو لأول مرة عن طريق العالم الأمريكي ريتشارد فاينمان الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1965 والذي عمل في أبحاث تطوير القنبلة الذرية في الأربعينيات من القرن الماضي. وقد أعلن عن هذه الفكرة خلال حفل تكريمه من قبل مجموعة تنتمي إلى الجمعية الأمريكية للفيزياء. وفي خلال هذا الاحتفال قام البروفسور فاينمان بإلقاء محاضرة نادرة بعنوان «هنالك كثير من المساحات والغرف الكبيرة بالقاع» وقد كانت تلك المحاضرة باكورة انطلاق ثورة كبيرة في القرن الواحد والعشرين والتي تتمثل في ثورة النانو التي ستغير مستقبل البشرية وستقلبه رأساً على عقب. وأكد البروفسور فاينمان خلال المحاضرة أنه يمكن من خلال التلاعب بالمادة على المستوى الذري أن يتم تغيير خواص المواد وجوهرها والإتيان بمواد جديدة مختلفة جوهرياً عن المادة الأولى. وفي تلك الأيام, لم يكن اسم النانو قد دخل حقل التداول ولم يطلق عليها البروفسور فاينمان حينها اسم النانو بل في عام 1974 لقبها العالم الياباني «نوريو تانيجوتشي» بتكنولوجيا النانو.. وهي بالإنجليزية(Nanotechnology) ويضيف أحد الباحثين العرب في هذا المجال «إنه لم يكن من السهل لهذه التكنولوجيا الحديثة أن يبزغ فجرها في يوم وليلة، بل استغرق الأمر أكثر من 22 عاماً قضاها علماء العالم في معاملهم في جد ومشقة، ليبرهنوا صحة تلك الفرضيات والتي أضحت حقيقة وواقعاً ملموساً» وقد بين عالم الفيزياء الأمريكي اريك دريكسلر استشرافه ورؤيته وتنبؤاته لتقنية النانو في كتابه الذي نشر عام 1986 تحت اسم «محركات الخلق والتكوين» متصوراً آلات دقيقة في الحجم قادرة على استنساخ نفسها بنفسها ذاتياً وبطريقة آلية. تقنية النانو ستقدم حلولاً سحرية أشبه بتلك الحلول والتصورات الموجودة في أفلام الخيال العلمي. تلك الحلول التي عجزت عن إيجادها الهندسة التقليدية. تخيل أنه باستطاعنا بناء منزل من كومة رمال بصورة آلية وذلك باستخدام معدات البناء الصحيحة والمواد الذكية, فترى المنزل ينمو أمامك كما تنمو الشجرة. تخيل هذا المنزل وقد غطى سطحه جسيمات نانوية تحول أشعة الشمس إلى طاقة منزلية, ونوافذه تنظف نفسها بنفسها آلياً وفي نفس الوقت تقوم بوظيفة الستائر فلا تحتاج لتركيب ستارة, وفي داخل هذا المنزل جدران تمدك بالضوء الطبيعي, أو أن تلك الجدران قد تتحول إلى شاشات تلفاز أو أعمال فنية خاضعة لذوقك ومزاجك والأرضيات كحال النوافذ تنظف نفسها بنفسها, وغسالة الأواني الأوتوماتيكية تغسل عشرات الأطباق والأواني دون بقع وسوائل تنظيف ومياه, والملابس التي نلبسها وأنسجة السجاد التي نفترشها مزودة بمواد نانوية تحميها من التلوث والجراثيم والاتساخ والتجاعيد فلا حاجة لآلة الغسيل ولا للمكواة بعد ذلك. وفي مجال الطب يمكننا الاستعاضة عن العقاقير والأدوية أو الحقن بل والوصول بكل سهولة للأنسجة التالفة ومعالجتها دون المساس بالأنسجة والخلايا السليمة, بل ما رأيك لو تم حقن شرايينك وأوردتك بمواد نانوية تقوم بتنظيفها من الدهون مما يشكل وقاية من الجلطات والنوبات القلبية, حتى في مجال السرطان يمكن التخلي عن العلاج بالكيماوي والولوج للخلايا السرطانية وتدميرها دون التعرض للخلايا السليمة. ويمكنك بلع كبسولات نانوية متصلة بحواسيب تقوم بتصوير دبيب النملة داخل جسمك وإرسال التقارير أولاً بأول للطبيب المختص, وبذلك يمكننا تشخيص الأمراض بسرعة مذهلة والتدخل العلاجي في الوقت المناسب. وماذا بعد، من أهم الأسباب التي ساعدت على نشوء فكرة اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة هي ندرة الموارد وطرق توزيعها, فندرة الموارد بطبيعة الحال تعد من أهم عوامل الصراع والنزاعات بين الجماعات والدول، فنشأت تلك الحركات الدينية والاجتماعية التي تطالب باليوتوبيا كاحتجاج على ندرة الموارد وبالتالي احتجاجاً على توابعها من المجاعات والحروب. واليوم لدينا تكنولوجيا النانو, ومن يدري فلعل المائة عام المقبلة سيكون لدينا ما يعرف بوحدة التناسخ المتماثل، حيث من الممكن أخذ مواد أولية يتم التلاعب بها على المستوى الذري لتكوين مواد جديدة بخواص وماهية مختلفة تماماً عن المادة الأولية، كأن تحول الزجاج إلى خشب أو العكس, فتقنية النانو ستجعلنا نمتلك القوى الخفية التي يملكها الساحر. تخيل أن هذه التقنية ستجعلك تأتي باليوتوبيا التي عجز عن جلبها الأقدمون إلا في كتبهم ورواياتهم وموروثهم. ما الذي سيحدث لو كانت هناك وفرة لا نهائية في الغذاء والماء والمواد الأساسية والحاجات والكماليات أيضاً. تخيل لو أن كل شيء متوفر بقدر الوفرة اللانهائية للهواء, ستختفي قوانين العرض والطلب والتسعير والسوق والبيع والشراء وستختفي معها طباعة النقود والمصارف والبنوك المركزية وكل مكونات وهياكل النظام الاقتصادي الرأسمالي, فلا حاجة للنقود والبنوك إذا كان كل شيء متوفراً كالهواء. وقد تنبأ راي كيرزويل أنه بحلول العام 2049 سوف يتم إنتاج الطعام باستخدام تقنية النانو بنفس التركيب الغذائي السليم للطعام المنتج بطريقة عضوية, مما يعني أن توافر الغذاء لم يعد يتأثر بالمصادر النباتية والحيوانية المحدودة مما سيقضي على أزمة الغذاء في كثير من مناطق العالم, إنها فعلاً ثورة بكل المقاييس.