حسناً إنها الحقيقة المنصفة التي يعرفها الجميع حين تسول لهم أنفسهم ممارسة المقارنة مع الجامعات الأخرى حول العالم. الجامعات السعودية كانت وربما لا تزال بيئة صادمة للإبداع.. غير محفزة لتلك العقليات المستنيرة.. وحينما تفقد الحافز فإنك ببساطة تفقد كل شيء.. لن أقف هنا كقاضٍ يستمتع بإصدار الأحكام وفق انطباعات عابثة.. لكني جربت ما معنى أن تكون طالباً في جامعة سعودية.. والآن ما معنى أن تكون عضواً لهيئة التدريس… هذا الحكم ليس شاملاً فهناك دائماً بعض الاستثناءات المدهشة.. والأفكار الخلاقة.. والأمر الذي نعول عليه كثيراً هو هذا التوجه المحسوس لتطوير الجامعات من خلال الحصول على الاعتمادات الأكاديمية الدولية وتطبيق معايير الجودة عالمياً.. هذا الأمر يجعلنا نتفاءل جميعاً بتغير شامل للوحة الباهتة المرسومة عن جامعاتنا عالمياً.. ولكن حينما نريد أن نعطي تصورات عامة فأننا يجب أن نتحدث عن اللب والجوهر لا عن القشور.. عن العقلية الأكاديمية وبالذات عقلية الأكاديمي السعودي دون غيره لأنه المعنى بالدرجة الأولى لا عن البنى التحتية وتصميم المباني والمدن الجامعية.. ذلك أن الإنسان والعقلية البشرية هي الأداة الأقوى والفاعلة في خلق أي تطوير وإنجاز وسمعة رائدة. دعوني أراهن كثيراً على أنه في ظل الرخاء وظروف كهذه التي نشهدها ومع حكومة تقدم كل الدعم المالي والبنى التحتية بشكل لا مثيل له، وما المدن الجامعية الجديدة وجامعة الملك عبدالله ودهشة الوفود القادمة إلينا من جامعات عالمية من مستوى التقنيات والتجهيزات إلا خير شهادة للتاريخ وللزمن بأن الدعم المادي والتطويري كان رائداً.. إذا ما الذي يجعل جامعاتنا السعودية دائما في أواخر التصنيف العالمي.. ما الذي ينقصنا كي نحتل مركزاً متقدماً عالمياً بالرغم من وجود كل الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك مادياً.. ما الذي يجعل جامعات حول العالم خاصة في ماليزيا والصين وروسيا مثلاً متواضعة مادياً مقارنة بجامعتنا ولكنها متفوقة بحثياً وعلمياً ومهنياً والأهم من ذلك كله أكاديمياً. لا يمكن الإجابة على أسئلة من هذا النوع في مقالة أو بناء على رأي أفراد دون حقائق أو إحصائيات حقيقية من داخل أروقة الجامعات وقاعات المحاضرات المغلقة ولكني أزعم أن الجزء الأكبر من الحل يتعلق بالموارد والإمكانات البشرية..أراهن على أن كل ما يلزمه الأمر لتقفز جامعاتنا للأمام هو تغير عقلية الأكاديمي السعودي واستجابته لتغيرات وأساليب التدريس المتجددة بشكل ثوري.. والتوجه نحو إثراء المكتبة البحثية الأكاديمية السعودية بسياسات عملية تركز على الجانب البحثي في الجامعات وتقدم كل الدعم للمنجزين والقادرين على تقديم الأوراق العلمية بشكل فعال من خلال المؤتمرات العالمية. مشكلة بعض الأكاديميين السعوديين أنهم يؤمنون بأنهم مسبقاً لديهم كل ما يلزمه الأمر لتعليم ناجح.. وأن شهادة الدكتوراة تمنحهم كل شيء.. وهذا يجعلهم يدورون في نفس العجلة بينما يحلق الآخرون، ولعل أفضل مقولة تصف الأمر هي ما قاله ايباكتيتوس «من المستحيل على رجل أن يتعلم ما يعتقد مسبقاً أنه يعرفه».. إذا لم يعترف الأكاديمي السعودي بأن عقليته يجب أن تتغير بشكل مطرد مع أساليب ومنهجيات التعليم المتجددة فأننا سنبقى دائما وأبداً في نفس المربع الأول. لم يعد من المقبول أبداً في تخصص تقني أو علمي مثل الحاسب والطب والفيزياء أن يدخل المحاضر ويستأثر بالحديث مدة المحاضرة فهذا الأسلوب العقيم ولى زمنه وما يدعم رؤيتي هذه هو ما أثبتته الدراسات الحديثة أن الإنسان لا يمكن أن يصغى بكامل تركيزه لشخص ما لفترة تتجاوز الساعة.. وإليكم ما يدور داخل القاعات حينما يتبع هذا الأسلوب.. في طرف القاعة تجد أحدهم سارحاً في أحلامه.. وفي الطرف الآخر بعض الطلاب منهمكون بمحادثات بالبلاكبيرى والواتساب.. هذه الجزئيات الصغيرة تظل تتمدد حتى تكون تفاصيل المسرحية التعليمية الكبيرة.. حين تتخرج بعد خمس سنوات في الجامعة وليس لديك في تخصصك أي منطقة قوة. لا يوجد في عالم الحقيقة عصا سحرية يمكنها تقديم الحل في فترة وجيزة.. ما يوجد هو معادلات ومنهجيات قادرة على إثبات جدواها وخلق التغيير الذي نحلم به، في نظري يكمن أحد الحلول للخروج من مآزق ضعف المخرجات الأكاديمية في مثلث يعتمد على ثلاثة أضلاع متوازية في القوة والأهمية وهي إثارة الاهتمام ثم التفاعل وبعد ذلك الإبداع.. في البداية وربما تكون المهمة الأصعب التي قد تواجه الأكاديمي داخل قاعات المحاضرات كيف تسرق انتباه الطالب وتجعله مهتماً بالموضوع الذي تتحدث عنه.. عندما تستحوذ على اهتمام الطالب وتسرق منه فكره حتى يتملكه الفضول ستقيم جدراناً عازلة بين وعيه الداخل وبين كل الأشياء العابثة من حوله وبذلك تنتقل تلقائياً للضلع الثاني من أضلاع المعادلة والمتمثل في خلق تفاعل حقيقي وخلاق.. هنا يجب أن تترك مساحة للطالب لأن يفكر.. لأن يسأل.. لأن تصيبه الدهشة حيال معلومة للتو يكتشفها.. لا يجب أن تبادر بالشرح دفعة واحدة وبشكل روتيني ممل لأنك بهذا الشكل ستقتل أي محاولة لتفاعلية الذهنية لدى الطالب.. حينما نصل لمرحلة التفاعل وتصبح المحاضرة تفاعلاً جميلاً بين المحاضر وطلابه ويصبح تنقل المعلومات وفق مسارات تعتمد بالأساس على استجلاب الوعي وتكثيف حضوره، هنا فقط وبكل تأكيد سنصل للإبداع بحد ذاته كنتيجة حتمية لتفاعل العقل وإعطاء مساحة لهذا الإبداع لأن يظهر من خلال تكليفات وواجبات منزلية أو حتى مشاريع صغيرة وربما في نتائج الاختبارات كأهم معايير التقييم الأكاديمي.. من يقرأ هذا الكلام لوهلة يفكر بأن التنظير وخلق معادلات على الورق هو أمر سهل بينما التنفيذ كواقع هو أمر مستحيل. حسناً عزيزي الأكاديمي لا يمكننا الحكم على استحالة الأشياء من سهولتها إلا بعد التجربة.. حاول أن تجرب وأن تجعل عقليتك مفتوحة لكل ما يمكنك أن تطبقه من أساليب التعليم الحديثة.. في النهاية ستجد الأشياء المذهلة تتحقق حتى تصل لمرحلة تقول فيها: لقد كان الأمر يستحق عناء التجربة والعمل.