تَمٌرُّ اللغة العربية بمنعطف خطير في تاريخها؛ فهي تعيش أزمة حادة تمثلها عدة تحديات، أبسطها هجران النشء لها، وأقساها محاولة تخفف الرموز الثقافية من أحمالها حتى أضحت غريبةً على نفسها. يكون كل ذلك وذاك، في الوقت الذي تلقى العربية فيه شيئاً من الاهتمام العالمي يتسنَّمه تخصيص منظمة اليونسكو يوما عالميا للغة العربية، وهو الحادي والعشرون من شهر فبراير كل عام، أسوة بغيرها من اللغات العالمية التي تفوقت بفضل جهود الناطقين بها. هذا البر الخارجي والعقوق الداخلي الذي وصل إلى حد الاستهتار والاستهزاء بها، ليس من الداخل! بل من بعض الفضائيات - التي يملكها سعوديون - من خلال مسلسلات كوميدية تتهكم بممارسيها، عرضت خلال شهر رمضان المنصرم، الأمر الذي خلق في مخيلة الكثير من الباحثين والهواة أسئلةً حائرة لم تجد من يتصدى لها صراحةً. في هذا الحوار، مع الدكتور محمد بن سليمان القسومي، رئيس قسم الأدب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعضو مشروع تطوير معايير برامج اللغة العربية الذي ترعاه الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي، وعضو مجلس إدارة الجمعية العلمية للغة العربية.. ستتم الإجابة عن هذه الأسئلة وما وراءها.. لعلنا نكشف عن جزء من هذه الهوية المفقودة.. فإلى نص الحوار: * بداية: كيف تنظرون إلى تجاوب الشارع العربي مع ما يطرح من قضايا اللغة العربية بصفتكم أحد المدافعين عنها؟ وما مدى تقبل العامة لما يطرح من قضايا اللغة؟ - الشارع العربي مشغول بقضايا تمس حياته يرى أنها أهم من قضايا اللغة العربية؛ فالصراع المادي والفكري والحراك الثقافي الذي يعيشه المجتمع العربي والتحولات السياسية التي تعيشها الساحات العربية عوامل كفيلة بجعل الأذهان بعيدة عن التفكير في قضايا اللغة العربية، ومن الطبعي أن المتخصصين هم الذين سيهتمون بقضايا اللغة العربية وما يمس مستقبلها، وطرائق تعليمها ومايتعلق بذلك من قضايا. * ضعف المستوى اللغوي ظاهرة عامة ألقت بظلالها على أغلب أفراد المجتمع وبدأت تستشري عند بعض النخب الثقافية والأدبية: فما سبب ذلك في رأيكم؟ وهل يمكن علاجها؟ - هذا سؤال مهم، والإجابة عنه بحاجة إلى مساحة كبيرة؛ لأن الأسباب كثيرة، تتفرع منها محاور يمكن أن يبسط القول فيها: فالبيئة التعليمية والأستاذ وطريقة التدريس والمقرر والوسائل التعليمية والطالب جوانب مهمة في مشكلة الضعف اللغوي؛ فمن الأساتذة من يعاني ضعفًا في حصيلته العلمية، يضاف إلى ذلك القصور في تكوينه التربوي وتأهيله التأهيل المناسب، ومن المؤسف أن الحديث باللهجة العامية قد شاع في قاعات الدرس وبعض الحلقات العلمية، وطبعي أن الأستاذ الذي لم يؤهل تأهيلا تربويًّا صحيحًا لن يستطيع شد انتباه الطلاب للمادة العلمية، والحقيقة أن الاهتمام يجب أن يبدأ منذ سنوات التعليم الأولى بأساليب متطورة ينمو عليها فكر الطالب، والملاحظ ضعف التأسيس في مراحل التعليم الأولى، واللغة سليقة وعادة من لم ينشأ عليها صغيرًا أعيته كبيرًا، كما يلاحظ أيضا الاعتماد على الحفظ وافتقاد الجانبين النظري والتطبيقي، وإذا أتينا إلى بعض الجامعات نجد أن بعض المقررات المهمة تُسند إلى معيدين أو أساتذة غير متخصصين في المنهج المقرر، كما أن أغلب الدارسين في أقسام اللغة العربية لم يدخلوها راغبين، بل وجدوها ضمن الأقسام المتاحة؛ فسجلوا أسماءهم على الرغم من أنها تخالف ميولهم. وأغلب هؤلاء لن يتفاعلوا مع أساتذتهم أثناء دراستهم الجامعية، وحينما يتخرجون ويبدؤون بممارسة التدريس لن يعملوا بحس المتخصص الذي يحمل هم لغته، وهذا له أثر في تكوين الطالب الذي يستقي حماسته للغة من أستاذة منذ المراحل الأولى. ويمكن علاج ذلك من خلال تكثيف البرامج التي تبث في نفوس الطلاب الاعتزاز بلغتهم العربية والشعور بجمالها وقدرتها على استيعاب التطورات العلمية الحديثة وتنبيه الطلاب والأساتذة على التزام الفصحى في المحاضرات والمناقشات وإسناد التدريس إلى المتخصص المتمكن من المنهج والاستعانة بأساتذة من خارج المؤسسة التعليمية إذا دعت الحاجة إلى ذلك والعناية برفع مستوى إعداد معلم اللغة العربية تخصصيًّا ومهنيًّا والإفادة من معطيات علم اللغة التطبيقي والتركيز على النحو الوظيفي وتجديد المناهج وتجريدها من التقسيمات العقلية والشواهد الشاذة والحرص على ربط القاعدة النحوية بالنص الأدبي البليغ الجميل؛ لأن الطالب حين يقف على النماذج الرائعة التي تمثل القاعدة تقوى الحاسة الأدبية لديه ويتطبع لسانه على النماذج الحية البليغة التي تعينه على فهم القاعدة، ومن المهم العناية بالبيئة والوسائل التعليمية الحديثة التي تساعد الطالب على فهم لغته وتعلم بعض المهارات وتنمية الثروة اللغوية، والأولى أن تراعي عمادات القبول في الجامعات رغبة الطلاب فلا تسجل في أقسام اللغة العربية إلا الراغبين فيها، وأن تكون هناك خطط مشتركة بين وزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم ؛ لتطوير البيئة التعليمية. ومما يدعو إلى الفأل أن الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي تقوم بجهود حثيثة في سبيل التطوير (فإطار المؤهلات الوطني) الذي يحدد مواصفات الخريج يبشر بالخير، وجامعاتنا الآن مضت خطوات في تطبيق الجودة وأصبحت تتنافس في سبيل الحصول على الاعتماد الأكاديمي؛ فاهتمت بتوصيف البرامج الأكاديمية والمقررات الدراسية وأعدت تقارير للبرامج الأكاديمية تجرى سنويًّا وتقارير للمقررات تجرى في نهاية كل فصل دراسي. ولاشك أن هذا كله سيكون ذا أثر كبير في تطوير استراتيجيات التدريس وآليات التقويم وسيكون دافعًا لخلق جو من التنافس بين الأساتذة فيما بينهم، وكذلك بين الأقسام المتناظرة في الجامعات. * في زمن مضى كان الإقبال على الأقسام اللغة العربية ظاهراً بينما نعيش الآن حالة من العزوف عنها لماذا ؟ - هناك عوامل كثيرة سببت عزوف الإقبال على أقسام اللغة العربية من أهمها التوسع في التخصصات في جامعاتنا الأمر الذي جعل مجال الاختيار أمام الطلاب مفتوحًا أكثر من ذي قبل، على أن شح الوظائف لخريجي اللغة العربية من أهم أسباب عزوف الطلاب، فضلا عن صعوبة التخصص؛ لكونه من التخصصات التي تحتاج إلى أن يكون الطالب مؤسسًا تأسيسًا علميًّا صحيحًا في المراحل ما قبل الجامعة . * إلى أي مدى يمكن أن تتقبل الأقسام الأدبية فكرة التطوير ؟ - الأقسام الأدبية يمكن أن تتقبل فكرة التطوير في حدود ما تسمح به اللوائح والأنظمة وتتسع مجالات التطوير أو تضيق؛ بناءً على مرونة المسؤول الأعلى وسعة أفقه ومدى تقديره لنشاط القسم . * ماذا عن العامية والاحتفاء بها وإهمال الفصحى ؟ - ليست اللغة العربية وحدها التي تشكو الازدواجية بين الفصحى والعامية ؛ فالناظر في لغات العالم الحية يجد ذلك لكنه لا يكاد يجد احتفاء بعامية واستهزاء بفصحى كما هي الحال عندنا. إن من مظاهر الاحتفاء بالعامية شيوعها في وسائل الإعلام وإقامة الجوائز لشعرائها في بعض الفضائيات العربية وتدريسها في بعض الجامعات العربية، حتى إن ثمة رسالة علمية باللغة النبطية صدرت من أحد أقسام اللغة العربية في إحدى جامعاتنا العربية، والأمر المحزن أن تصل الحالة إلى أن يذاع برنامج في إحدى الفضائيات العربية يتهكم بالعربية الفصحى! * شهد المجتمع ولادة لغة (هجين) بين العامية والفصيحة أصبحت هي لغة التواصل بين المثقفين والعامة , فأين تقفون منها؟ - إذا اقتصرت اللهجة على التواصل الشفهي بين الناس في أسواقهم وأنديتهم فإن هذا أمر مقبول، الأمر غير المقبول أن تكون لغة كتابة وتواصل بين المثقفين في محافلهم. * ماهي طبيعة الأنشطة التي تقوم بها الجمعية العلمية للغة العربية ؟ - للجمعية العلمية السعودية للغة العربية أنشطة متعددة، مثل: إقامة الدورات التدريبية والمحاضرات ونشر الكتب القيمة، كما أن لها مجلة علمية محكمة تعنى بالبحوث في فروع اللغة العربية وقد يتنوع النشاط من خلال اللجان التي شكلها مجلس الإدارة، مثل: اللجنة العلمية، ولجنة التعريب والتصدي للعامية، واللجنة الاجتماعية، واللجنة الفنية، ولجنة العلاقات والمتابعة، واللجنة المالية، وكذلك اللجنة النسائية التي تعد من أنشط اللجان و مقرها جامعة الأميرة نورة.