في 13 يناير من عام 1975 م وضعت رحلي في مدينة نورمبيرج الألمانية وهي مسقط رأس الحزب النازي. راعني الجدية والنظام والهدوء والجمال. قلت في نفسي قفزت بالطائرة من سوريا إلى هنا في أربع ساعات، ولكن بين البلدين مسافة أربعة قرون في الحضارة. أتقنت الجراحة مع سياقة السيارة وأمور كثيرة. كانت رحلة صخرية شققنا فيها طريقنا صعوداً إلى رأس الجبل بالتمكن من اللغة الألمانية وبالجدية والإقبال والمشاركة والحضور. ربحنا الجراحة وامتلأت جيوبنا بالماركات الزرقاء، وكان كسبنا من كل جانب؛ مالاً وعلماً وتعرفاً على دنيا جديدة، بل وسلوكيات هامة من حب الزرع والورد واحترام الوقت ونظافة الشوارع بدون عمال بنجال والدقة المفرطة في المواعيد وإتقان العمل. وهكذا انتهيت من رحلة ألمانيا في تسع سنين، ثم ساقتنا الظروف إلى العمل في جو مختلف تماماً. وهو صعب أن يقارن ولكنها حقيقة موجعة. هناك كثير من زملائنا ذهبوا فلم يعودوا؛ جيل أمريكا وجيل بريطانيا ثم ألمانيا ثم فرنسا. كثير ممن تكيّف وتزوّج من الأوربيات بقي هناك وأنشأ عائلة وحاز على الجنسية وبنى لنفسه بيتاً جميلاً ورزقاً وفيراً وعلماً دافئاً. أذكر رحلة الانقلاع من سوريا ثم من جديد الاقتلاع من الجو الألماني. حالياً وبعد مرور أكثر من أربعين سنة في ممارسة الطب تحدثت مع صديقي أبو فراس قلت له ربما علي أن أعمل سنة أو سنتين ثم أودع. قال هذا القرار قد لا يكون في يدك بل في يد من يقول لك استغنينا عنك. أشعر الآن بعد هذه الرحلة الطبية الطويلة أنه آن الأوان للفارس أن يترجل، وعندي المشاريع الكثيرة الفكرية تنتظرني للإنجاز، وبيتي في كندا ينتظرني مع بناتي وأصهاري، بل وثمانية أحفاد لهم الحق علي أن أكون بجنبهم؛ وهكذا فهذا العالم الذي نعيش فيه ليس مكاناً آمناً بحال، وليس بدار مقام، بل ينتظرنا في النهاية الرحيل من كل هذا العالم الفاني كما سبقتني إليه زوجتي ليلى سعيد.