الباحة – علي الرباعي «عجز» حوَّلني من معلم لغة عربية إلى تدريس الرياضيات لدي جاهزية لغرام المدن.. لكن لا شيء في الدنيا يعدل أبها وجدة يتمثل عبدالله ثابت في ذاكرتي نموذجاً للدهشة والبساطة والكفاح الثقافي لبناء علم خاص وفضاء لا يقبل الشركاء، امتلك شجاعة كبيرة ليقول «لا» في زمن لم يكن يجرؤ البعض منا إلا على قول «نعم». لم يتنكر للبدايات التي صاغته تقليدياً في قراءته وأفكاره وحواراته، ولم يستسلم كلياً لموجة التحول حذراً من الاستسلام القطعي لصياغات ظنّية. كان له مخاضه الخاص وبيئته الأولى اللافتة لأسئلة لم يتوفر لها إجابات، وربما لا يتوفر، وبما أن البئر الأولى حديثة عهد به ومنه، فإن تناول الدلاء كان ميسوراً وهنا ما تيسر: * ماذا في الذاكرة عن مولدك وتاريخ وظروف الولادة؟ - بحسب قول الوالدين، والموثّق في الهوية أني ولدت في الثاني من صفر 1393ه، الموافق الأربعاء السابع من مارس 1973م، كان الوقت ساعة الفجر، وولدت كما يولد سائر الأطفال، وأمي تألمت كما الأمهات، إلا أن نسوة القرية كان الطلق يداهمهن وهن على البئر أو في الحقل، وتقول أمي زهراء بنت محمد بن علي عسيري إن طلق ولادتها بي حضرها وهي على التنوّر، تُعدّ خبزاً للضيوف الذين سيأتون قبل طلوع الشمس، وكانت ليلة مطر، كما هي عادة القرى في جبال أبها، حيث كان المطر جزءاً من طبيعة الأيام، كالمزاريب والخلاخل والقمح. في تلك الأيام تقول أمي إن الوادي الذي يقسم القرية نصفين لم يجفّ يوماً. بكل حال أظن أن المرء حين يداهمه الحنين أو الحزن العنيفان، فإنهما إنما يأتيان في وقت مجيئه للحياة، أو وقت وفاته، يحدث هذا فيما يحياه المرء من سائر الأيام، والحنين والحزن الوجوديان يتناوبان على هذين الوقتين، مرّة يهجم الحنين عليك في نفس اللحظة التي ولدت فيها في أي يومٍ من أيامك، ومرةً يهجم في وقت مغادرتك، الذي لا تعرفه، وكذلك يفعل الحزن، وربما يكون علينا أن نفكر في الأوقات التي اعتادت أرواحنا أن تشفّ فيها وتتوهج. حكايات أولى * هل روت لك الجدة أو الأم عن مرحلة طفولتك؟ - أحمل ذكريات كثيرة عما قالته أمي وقاله أبي وقاله إخواني، وأكثر من التذكر أني عشت حكايات بيتنا القديم، «المسراح»، يقظة الفجر، وأسماء الأغنام واحدةً واحدة، عشت حياة الحقل والماء يجول في القصاب ودروس استعمال «المسحاة» والبئر، وسيلان الماء، وحلْب الماشية وأيام الحرث والبذور، وأناشيد الصريم والمحاصيل كلها عشتها، أذكر البستان الصغير اللاصق ببيتنا وشجر البرقوق والخوخ والمشمش، والتينة الوحيدة، أذكر كثيرا من الحكايات التي لم تقلها أمي ولا أبي ولا أهلي، لكنني عشتها ثانيةً بثانية، وواحدة من قصص الطفولة حينما كنت في المدرسة الابتدائية، كنا نعود عقب الظهيرة ونبقى في انتظار أبي حتى يجيء؛ لنتناول الغداء ثم نصلي العصر، وبعدها فوراً إما النزول لأعمال الحقل، وإما المسراح بالأغنام، نتناوب نحن الإخوة على كافة الأعمال، وفي أحد الأيام كان دوري في المسراح، وكان عندي اختبار مهم في اليوم التالي في المدرسة، فأخذت كتابي معي، وحين وصلت للمرعى أطلقت أغنامي فيه، ثم عكفت على كتابي أذاكره، لكنني وبعد حين ومن شدة الإعياء غفوت، وبينما أنا نائم جاءت الأغنام وأكلت قراطيس الكتاب فاستيقظت بعد برهة على جلبتها بجواري لأجد كتابي قد مُزّق كل ممزق، قمت فزعاً فأنا أعرف هول العقاب الذي سيكون في انتظاري في المدرسة والبيت، أجل قمت كالمجنون وانهلت بالحجارة على الأغنام، خوفاً من الغد، إذ كان المعلمون يعاقبوننا عقاباتٍ ليس فيها أدنى رحمة. عشق لمدينتين * ما هي المدينة المعشوقة حد الافتتان؟ - أعتقد أنني، وباعتباري قروياً أبهاوياً، فإنني مولعٌ بفكرة المدن، ولدي الجاهزية التامة للوقوع المريع في غرام المدن ومفاجآتها، وهذا ما حدث مع جدة وبيروت ولندن كمثال، وفي الحقيقة أنه ليس بوسع مدينة أن تأخذني كاملاً إلا وهي قرية على هيئة مدينة، هذا شيءٌ واحدٌ مما تستطيع أبها أن تمنحه أهلها، وهذا مما أفتقده فيها وأنا في خلاصة عشقي لجدّة وإحساسي أنها شيءٌ مني، وأني اليوم ابنها الذي استقبلته بمنتهى رهافتها، وكأني أحد أولاد حاراتها، أنا القروي الجبلي أقول هنا إنه لا شيء في الدنيا يعدل أبها وجدة. القراءة خلسة * ما أول كتاب قرأته؟ - لا أذكر اسم كتابٍ بعينه، لكني أتذكر حين كنت أهجم على مكتبة أخي في غيابه، وأقرأ لساعات، أتذكر طريقة دخولي وهيئتي القليلة بوضوح وأنا أحشر جسدي الصغير بين قضبان النافذة حتى أعبرها وأدخل، وأتذكر معها قصصاً قرأتها في كتبٍ مثل «كليلة ودمنة» أو «ألف ليلة وليلة»، والجميل في أخي أحمد، والجميل منه أنه كان يعرف سرقاتي هذه، ولم يقل حتى اليوم ولا كلمة. تهريب كتب * بمن تعلقت من كتّاب سني القراءة الأولى؟ - أستطيع أن أعد لك أسماء، لكني أؤثر أن أقف عند تعبيرك بسنيّ القراءة الأولى، فأي قراءة يا رجل في حينها، كان الحصول على الكتاب الذي تبحث عنه مثل معجزة، أعترف أني شخصياً قمت بدفع مبلغٍ كبير لتهريب صندوقين من الكتب الأدبية على ظهر حمار، عبر طريقٍ حدودية خاصة، من بلدٍ مجاور، كان أحد الصندوقين يحمل إصداري الأول «ألهتك»، لأتسلمها في الداخل وأعود بها لبيتي، وأصدقائي في الرحلة نفسها يذكرون هذا جيداً، لقد أدخلت كتابي الأول تهريباً على ظهر حمار وفي مرة أخرى ومن بلدٍ آخر، حاولت أن أفعل، واشتريت بعض الكتب من مصر، لأدخلها من مطار جدة، لكنه قُبض عليها فور وصولي، كانت أكثر من خمسين كتاباً، كلها رواياتٍ ودواوين وكتب فكرية، وكنت قد دفعت فيها ما ورائي وما قدامي، ولم أحصل عليها حتى اليوم، وأرجو من الذين يمكنهم الحصول على الكتب اليوم بكبسة زر، وأولئك الذين يستسهلون الكتابة، أن يجدوا في هذه المعاناة القديمة بعضاً من المعنى. * ما أول مقال أو نص نشر لك وأين ومتى؟ - أظنه لم يكن مقالاً، بل نصّاً شعرياً في مجلة، نسيته ونسيت المجلة، فقد مضى زمنٌ بعيد، أما أول مقالة فكانت في جريدة «الوطن» في الأشهر الأولى من تأسيسها، في صفحة «نقاشات»، ومنذها وأنا أكتب في الصحيفة نفسها. الأصدقاء قليلون * من صديقك الأول والأقرب؟ - ليس في الحياة أول، لكن لدي مجموعة أسماء ثمينة، أصدقها وأثق فيها، وإن عن بعد، وأجعل من نموها وحركتها، مؤشراً أن حياتي ونموّي بخير، ولدي أصدقاء قليلون جداً، ولم تكن لدي الفرصة فيما مضى أن أجد الصديق الأقرب هذا تعيس قليلاً، لكنه أكثر سلامة، وبالنسبة لرجلٍ مثلي اعتاد على حمل الوجع منفرداً، فإن سؤالاً كهذا خطأ بحق أصدقائي وحقي. * أين تجد نفسك من عواصم العالم التي زرتها، وما أبرز الأحداث المؤثرة في ذاكرتك؟ - هذا السؤال يبدو وكأنه موجهٌ لشخصٌ جاب العالم، وهذا ما لم أفعله بعد، لكني أحلم أن أفعله ولو جزئياً. نعم، رأيت عدداً صغيراً من البلدان في العالم، هنا وهناك، ولم تكن العواصم هي أجمل ما زرت، كما في أي بلد. العواصم كما العادة رأس مكشوف يعرفه كثير من الناس، لكن القلب وقصصاً أخرى في أمكنة غيرها. أوائل * متى ذرفت أول دمعة، ولماذا؟ - لا أعرف ولا أذكر، لكن طبيعة الخلق تقول إنها لحظة ولدت، ولأني ولدت. * أول إصدار وردة الفعل تجاهه؟ - أول إصداراتي كان مجموعتي «ألهتك»، وردة الفعل تجاهه كانت، بالرغم من استنكار قصيدة النثر وأنه لا مشروعية لها، إلا أنه حظي باهتمامٍ كان محفزاً لي، في الخارج والداخل. * أول مسؤول التقيته، وتود أن تقول له شكراً؟ - كان موجهاً تربوياً في المنطقة الشرقية، أول ما عُينت في الوظيفة، وكان في المدرسة عجز لعدم وجود معلم رياضيات، وقلت له إني أستطيع تدريسها، مع أني كنت معلم اللغة العربية. اختبرني ونجحت، وصرت معلم رياضيات. حنين * إلى أية جهة يأخذك الحنين؟ ولماذا؟ - لأمي إليها كل الحنين وعليها كل السلام، وهي هناك في حياض الله والأبدية. * ما الذي تحفظ عنها؟ - كانت تقول افتحوا الشبابيك نشوف نور ربي، وكانت أبرز دعواتها «الله لا يَرْخصْنا». * متى خفق القلب لأول مرة؟ - خفق ببراءة القرويين الأولى والتعلق البريء الطفولي ببكارات الأشياء مع مراعاة أعراف المجتمعات القروية. علاقة الأسرة * من الأنثى الأولى؟ - أم بثينة زوجتي وصديقتي ورفيقة دربي، علاقتي بها مليئة بالحب والاحترام كونها احتملت بوعي تغير ونزق الفنان، وتعاملت معه بصبر وحكمة. * ماذا عن علاقتك ببناتك؟ - حاولت ألا أكون أبا بل صديقاً، وللعلم هن ينادينني باسمي، ونتبادل عبر «الإيميل» ما يعجبنا، ونتحاور بألفة، ونشترك في بعض الاهتمامات بثقة وشفافية، وابنتي بثينة قارئ أول. * الفضاء الذي تهرب إليه؟ - مجالس الأصدقاء في فترات محدودة، البيت فضاء آمن، والمكتبة عالمي في هذا الفضاء.