لا يمكن في هذه الأيام أن تجلس في جلسة إلا وتسمع العبارات التالية: البطالة، السعودة، التعصب مع الأجنبي ضد السعودي، ضعف إنتاجية السعودي، عدم وجود سعوديين مؤهلين، حافز، مكافأة الموارد البشرية، تذمر مؤسسات القطاع الخاص…الخ. إن ارتفاع نسبة البطالة أصبحت اليوم قضية عالمية وأسبابها وعواقبها خطيرة، معروفة وواضحة. وحماس وحرص القيادات لإيجاد حلول جذرية وسريعة للمعالجة مُعلنة وواضحة. السؤال لماذا أصبحت مشكلة البطالة عالمية؟ ولماذا فشلت معظم المحاولات في مواجهتها؟ وكيف يمكن التعامل معها في السعودية؟ لقد أصبحت مشكلة البطالة عالمية الطابع لأسباب عديدة من أهمها عدم مواكبة ولادة واستحداث المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي عادة ما تفرز أكبر عدد من الفرص الوظيفية المنتجة – مع النمو السكاني، التغيير الرئيس في نوع المهارات المطلوبة في سوق العمل، ظهور قوى اقتصادية جديدة في الساحة الدولية، تصدير الموارد البشرية واستيرادها…الخ. إذا نظرنا نظرة مقارنة سريعة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والصين مثلاً فسنجد أن الدخل القومي في أمريكا يصل إلى (14.62) تريليون دولار و(5.75) تريليون دولار في الصين. ولكن مستوى نمو الدخل في أمريكا لا يتجاوز (2%) في حين يصل في الصين إلى (10%).. مما يعني أنه خلال عدد محدود من السنوات نتوقع أن تتقدم الصين على الولاياتالمتحدةالأمريكية وتصبح أقوى دولة اقتصادية في العالم. إن أهم أسباب ضعف النمو في الولاياتالمتحدةالأمريكية تعود إلى البطالة التي تتراوح بين (10-20%).. مما يعني أن هناك (30) مليون أمريكي يبحثون عن وظيفة منتجة. ومن هذا المنطلق تعمل الإدارة الأمريكية جادةً على كسب ما تسميه «الحرب العالمية الثالثة» أو حرب «صناعة الوظائف» لزيادة ولادة الأعداد المطلوبة من الوظائف المنتجة التي ستنعكس على زيادة الإنتاجية القومية.. وبالتالي رفع نسبة النمو الاقتصادي السنوي لكسب الحرب الاقتصادية والاستمرار في قيادة العالم سياسياً. ترى لماذا فشلت معظم المحاولات لمواجهة البطالة؟ الأسباب عديدة من أهمها: صرف الموارد الطائلة لمعالجة النتائج بدلاً من معالجة الأسباب. إن الآثار السلبية للبطالة في المملكة العربية السعودية لم تنعكس بصورة واضحة على الدخل القومي بسبب الدعم الكبير الذي وفره البترول للاقتصاد الوطني. ولكن النظرة الفاحصة للموقف تشير إلى أن هذه الآثار السلبية ملموسة على مستوى الفرد والأسرة. وهذا يؤدي إلى خطر أعمق على الاستقرار والأمن الوطني. وعلى الرغم من بذل الدولة جهوداً جبارة في محاولة معالجة قضية البطالة.. إلا أن النتائج ليست مواكبة للطموحات. ومن أهم المحاولات التي تمت دراستها من قبل الدولة هي إحلال العمالة الوطنية محل الأجنبية. هذه العمالة الوطنية تمثل اليوم مع أسرهم ما يقارب عشرة ملايين فرد. هذا العدد يمثل بالتأكيد عبئاً اقتصادياً على الدولة. معظم هذه العمالة تشغل وظائف ذات مهارات متدنية. بعبارة أخرى تُحتسب اقتصادياً وظائف غير منتجة.. ولا تنعكس بصورة ملموسة على الاقتصاد الوطني. بالإضافة إلى ذلك تمثل هذه العمالة ضغطاً غير مبرر على الخدمات المتوفرة (تعليمية، صحية، مواصلات، اتصالات…الخ). كما تقوم هذه العمالة بتصدير معظم دخلها (بدلاً من تدويره في اقتصاد البلاد) إلى خارج المملكة. العكس هو ما يحدث في الدول المتقدمة.. التي عادة ما تستورد العمالة التي تملك مهارات نادرة ومنتجة وبالتالي تنعكس بصورة واضحة على رفع إنتاجية واقتصاد البلد المضيف والدخل والقدرة الشرائية للفرد الزائر. وأحياناً تكون هناك جهود واستراتيجيات لتشجيع الزائر على الاستثمار وتأسيس مؤسسات صغيرة وتوظيف عمالة محلية. وقد تصل إلى دعوة الزائر للتوطين في حالة ندرة المهارات المتوفرة لديه. فالنتائج الاقتصادية تكون إيجابية ومفيدة للزائر والبلد المضيف. فالسر هو استيراد المهارات المنتجة المفيدة بصورة مباشرة للاقتصاد الوطني. لذا فإن استراتيجية إحلال العمالة الأجنبية في المملكة العربية السعودية تُعد حلاً غير عملي إطلاقاً لمعالجة البطالة.. حيث إن ذلك يعني حرمان المجتمع من الاستثمار في تدريب السعودي وإكسابه مهارات منتجة، كما يعني أيضاً ضغطاً على مؤسسات القطاع الخاص لتعديل معادلة الإنتاجية الخاصة بها. وهذا يسبب إرباكاً وإضعافاً غير مبرر للتنمية. يضاف إلى ذلك الحاجة إلى زيادة رواتب تلك الوظائف لتتناسب مع دخل المواطن السعودي.. مما يعني رفع المصروفات وإضعاف الأرباح بدون أي عائد إيجابي على الاقتصاد الوطني. بمعنى آخر فإن عائد هذه الاستراتيجية على الاقتصاد الوطني لا يتناسب مع المخاطرة. وهناك محاولات جادة أخرى تقوم بها الدولة مثل برنامج حافز، صندوق الموارد البشرية، قروض المشاريع الصغيرة…الخ. ولكن نظرة فاحصة لهذه المحاولات تبرز التحديات التي تواجهها اليوم في عدم قدرتها على معالجة قضية البطالة. اعتقد أننا في المسار الخاطئ لمعالجة قضية البطالة والسعودة. من الواضح أن النتائج ليست بحجم الاستثمارات أو الجهود الصادقة المبذولة. فالحل بالتأكيد لا يمكن أن يكون بزيادة الأعداد في المؤسسات الحكومية (بطالة مقنعة).. التي تعاني من شدة ضعف الإنتاجية. وليس بفرض السعودة الشكلية على مؤسسات القطاع الخاص والتسبب في إعاقة الإنتاجية المحدودة فيها. الحل هو في صناعة وظائف مستجدة منتجة عن طريق دعم وصفة قوية من الريادة والإبداع والإدارة غير المركزية لحث ولادة قيادات تنشئ عدداً من المؤسسات الصغيرة (100-500 موظف) تقدم منتجات تساهم في دعم نمو صحي حقيقي للاقتصاد الوطني. الحل العملي لصناعة وظائف لعدد مليوني مواطن (حسب الإحصاءات المعلنة والمتوقع أن ينمو في السنوات القادمة) هو توزيع المسؤولية على عشر مدن في المملكة. كل مدينة تكون مسؤولة عن البحث واختيار (1000) رائد ورائدة عمل من المدارس، الجامعات، مؤسسات القطاع الخاص والعام. هؤلاء الأفراد يتم اختيارهم ليس بناءً على قدراتهم الإبداعية فحسب وإنما على إمكاناتهم الريادية.. التي تتمثل في الدافعية القوية والإصرار الكبير على النجاح وتحقيق الأهداف. الخطوة التالية هي ضم هؤلاء الأفراد إلى حاضنات تدار من قبل إمارة كل مدينة/ منطقة باستقلالية تامة. الهدف هو أن تقوم كل ريادة خلال فترة محددة بإطلاق مؤسسة صغيرة في السوق تخطط لتوظيف (100-500) موظف سعودي تدريجياً.. بعد دراسة السوق وتأمين العميل (محلياً أو دولياً) للبضاعة المنتجة. إن برنامج العشر مدن (كل مدينة 1000 رائد ورائدة عمل) يهدف إلى تأسيس (10.000) مؤسسة لتوظيف مليون إلى خمسة ملايين مواطن في وظائف منتجة داعمة للاقتصاد الوطني. من الأهمية بمكان الإدارة غير المركزية مما يساهم في احتضان وإدارة تلك المؤسسات الصغيرة باستقلالية لإنجاحها والتعلم من الخبرة عند تكرارها في المستقبل. الجانب الرئيس الإيجابي لهذه الاستراتيجية هو عدم هدر الوقت في الضغط على المؤسسات الحالية في القطاعين الخاص والعام.. والتي تعاني أصلاً من مشكلاتها الخاصة في كفاءة الإنتاجية.. من خلال الاستراتيجية الحالية للدولة لإحلال وظائف ذات مهارات متدنية ورفع رواتبها مما يعني عدم رفع الإنتاجية. والنتيجة هي رفع التكلفة للخدمة وهذا غير منطقي أو مبرر. فالقضية هي قضية مجتمع.. والحل يحتاج إلى دعم جميع مؤسسات المجتمع. فتوفر فرص العمل للناس حق ولكن الاستمرار في العمل عند عدم الكفاءة ليس حقاً في صالح المجتمع والاقتصاد. فالدولة والمواطن شركاء في معالجة قضية البطالة. شركاء في كل من المخاطرة والنجاح. فالمسألة مسألة شراكة في بناء الاقتصاد ورفع الدخل السنوي للفرد والدولة. والعمل المنتج هو الطريق الوحيد لكل أصناف الأمن وخاصة الأمن الغذائي، الأمن الصحي، الاستقرار الأمني والازدهار في البنية الأساسية للبلاد. إن استمرار فتح فرص واعدة للشباب من تعليم متميز إلى وظائف منتجة إلى فرص نمو وتطور دائمين يعود إلى القدرة على الاستمرار في توليد وظائف منتجة تجذب القدرات والإبداع.. وتنتج البيئة الخصبة للعقول والنمو الاقتصادي الصحيح.