هناك من ناهض الفقه وحمّله تبعات التخلف في عالمنا الإسلامي كونه فقهاً قائماً على تسويغ وتسويق السلطة في زمنه، بينما رآه فريق من المسلمين ضمانة لحفظ الشريعة باعتباره نظاماً وتقنيناً للأحكام لتيسير حياة المجتمع وضبط تعاملاته، والفقهاء ليسوا سواء، فمنهم من يبذل الجهد في سبيل التوسيع على الناس وفتح باب الذرائع لتحقيق مراد الشرع وتلمس الرخص وإثبات الاستحسان دليلاً وطريقاً من طرق الإباحة لما يناط به من استيعاب المستجدات ورفع الإصر والأغلال عن الناس، ومنهم من هو عكس ذلك، وبما أننا نتفق على أن عقيدة الإسلام واحدة، وأن الاعتقاد هو الذي يتباين بحسب كل معتقِد، فمن الطبيعي أن يكون الفقه واحداً في دلالته على الفهم، أما الفهوم فهي تختلف وتتفاوت، فالقدرة على استنباط الأحكام مهارة، ومن هنا برز ما يُمكن وصفه بفقه الخواص، وأعني به توسع بعض الفقهاء في المباحات ورفع الحرج عن تصرفاتهم في المكروهات وتساهلهم فيما يخصّهم وبعض ذوي الهيئات فيما يراه الناس أو يظنونه محرّمات، ولستُ نافراً ولا مُنفّراً من موروثات الفقه الخاص باعتباره مندوحة للمضطرين إذا ما تلمسوا سيَر بعض الفقهاء السالفين واللاحقين، ويأتي عمر الفاروق -رضي الله عنه- في مقدمة مؤسسي الفقه الاجتهادي الاستثنائي نظراً لاستيعابه معنى الشريعة وكونها رحمة للناس لا عذاباً، وتهذيباً لا تعذيباً، كما أثر عن أحد العلماء السابقين عدم اهتمامه بغسل يديه من الأحبار، وحين قال له أحد تلامذته كيف تصلي وأنت ملطّخ بهذه الأحبار؟ فأجابه «حيثما كنتُ فأنا في صلاة»، وحين فتحتُ باب الحوار مع صديق فقيه بخصوص ما تبثه القنوات من فتاوى الغالب الأعم من ردود رموز الفضاء الإفتائي (حرام ولا يجوز، وحين يتعاطفون معك يقولون «يجوز مع الكراهة»)، هذا فيما يُدلون به من فقه للعوام، أما تصرفات بعضهم في حياته فأوسع وأرحب مما نظن، فكم من فقيه يحذّر من الخلوة بالأجنبية، إلا أنه ينفرد في منزله بالعاملة المنزلية دون حرج، وربما تهاون في كشفها رأسها أو لبسها بما يتناسق مع الموضة! وأنا هنا لا أضع أحداً موضع ريبة أو اتهام، إنما هو رصد لمكامن الفقه الخاص المبيح للفقيه ما لا يباح لغيره، وبتأمل الفتاوى المتعلقة بالمصارف والمعاملات البنكية سنرى تناقضاً بين تعاونهم علينا وتهاونهم فيما يجرّ لهم نفعاً من البنوك، وقس على هذا كثيراً من القضايا المعاصرة في الأطعمة والأشربة والأنكحة، ومن الشواهد الحيّة على ما أقول ما بلغني من موظفٍ عند شخصية اعتبارية كشف لي أنه تسلّم يوماً زكاة مالية فسلّمها بدوره للشيخ الفقيه، فأعطاه منها ألفي ريال قائلاً: هذا نصيبك، فتعجب الوسيط من تصرف شيخه وقال: بأي حق تعطيني من زكاة رجل وثق بنا؟ قال: يا بني، أنت الآن من العاملين عليها!! وهذا ما دفع هذا الموظف إلى قول يبدو أنه ليس كل مسلمٍ فقيهاً بشرع الله وأن في الشرع علماً لا يعلمه إلا هم.