كان هناك رجلان، بريطاني وياباني، يجتازان الجمارك في مطار ما، وكان الياباني يحمل حقيبتين ضخمتين، بينما البريطاني يساعده على المرور بالحقائب، رنَّت ساعة الياباني بنغمة غريبة، فضغط على زر صغير في ساعته، وشرع في التحدث عبر هاتف صغير للغاية. عقدت الدهشةُ لسانَ البريطاني من هذه التكنولوجيا المتقدمة، فعرض عليه خمسة آلاف دولار مقابل الساعة، ولكنَّ الياباني رفض البيع. استمرَّا في المرور بالحقائب. وعادت الساعة ترنُّ من جديد، ففتح الياباني غطاء الساعة لتظهر شاشة ولوحة مفاتيح دقيقة، استقبل عليها بريده الإلكتروني وقام بالرد. تملَّكَت الدهشة البريطاني، فعرض على الأول خمسين ألف دولار مقابلها، فقال له: عفواً ساعتي ليست للبيع. استمرَّا في العبور والبريطاني يساعد الياباني في سحب الحقائب. رنَّت الساعة مرةً ثالثةً، فاستخدمها الياباني لاستقبال فاكس. «يا إلهي!» صرخ البريطاني في نفسه، ومن ثمَّ صمَّمَ على شراء الساعة، وعرض مائة ألف دولار مقابل ذلك. هنا سأله الياباني إن كانت النقود بحوزته ليتنازل له عنها، أخرج البريطاني متعجلاً دفتر الشيكات وحرَّرَ له شيكاً بالمبلغ فوراً. عندها استخدم الياباني الساعة لنقل صورة الشيك إلى بنكه، وقام بتحويل المبلغ إلى حسابه في سويسرا. ثم خلع الساعة وأعطاها للبريطاني وسار بعيداً: «انتظر!» صرخ البريطاني، «لقد نسيتَ حقائبك!». ردَّ اليابانيُّ قائلاً «إنَّهَا ليست سوى بطاريات السَّاعَة»! قرأتُ هذه القصة المليئة بالحكمة في علم الإدارة الحديثة. هنا درسٌ عظيمٌ يعلمنا ألا نقوم باعتماد الأفكار دون فهم التداعيات وتوقع النتائج. لكنَّ الأفكار أيضاً تبقى أفكاراً دون تنفيذ ودون قيادة حقيقية. فالقيادة هي ملكة أساسيَّة لإنجاح أي فكرة وأي مشروع، صغيراً كان أم كبيراً، شخصياً كان أم عاماً. وما المشاريع في النهاية إلا مجموعةٌ من الأفكار تحتاج إلى مَن يمتلك القدرة على إنجازها بتوجيه الموارد الأساسية للنجاح. وهذا هو الدور الذي يلعبه القائد. لذلك فغياب القياديِّين الحقيقيِّين قد يتسبب في ضياع الأفكار المهمة. وضياع مشاريع البلاد، وهدر ثرواتها. أدوات القيادة هي محطُّ التطبيق الفعلي للمشاريع، وامتلاك هذه الأدوات هو الذي يجعل الفكرة تنتقل من كونها مجرَّدَ فكرة غير واضحة الملامح في الذهن، إلى جليَّة لها رؤى وأهداف وتخطيط ومراحل وأبعاد استراتيجية، إذ إنَّ مهارات القيادة والإدارة هي التي تمهِّد عملية التنفيذ، كما تساعد على تصحيح الأخطاء وقت حدوثها وتداركها أيضاً قبل أن تقع. كما تضعُ عمليَّةُ التنفيذ الفكرةَ في مسار واضح تبدو فيه «المسؤولية» حجماً وشكلاً وعملاً ورؤية. إنه انتقالٌ بالفكرة من اللاوجود إلى حيز الوجود. تشكيلها. خلقها. دفعها. وتسييرها. يتفق عامة خبراء الإدارة أنَّ القيادة هي سلوكٌ فطريٌّ صِرفٌ نابعٌ من جينات الفرد. فالقياديون يولدون قياديين، وتراهم في تعاملاتهم المحيطة منذ عمر مبكِّر بسيماء القيادة. وهذا أيضاً ما اعتقده الفيلسوف «أرسطو»، أن القيادة موهبة فطرية وموروثة لا علاقة لها بالعوامل الخارجية المؤثرة ولا تتعلق بالظروف ولا الزمان ولا المواقف. لكن وارين بينيس (Warren Bennis, 1925) أسَّسَ منهجاً جديداً هو تعلم فن القيادة وصقلها، وهو الذي يعتقد أنَّ القيادة «فنٌّ يمكن تعلُّمُه»، وقد سرد بعض القدرات والمهارات التي لابد من أن يكتسبها القائد، ومنها: القدرة على خلق تجربة طموحة، القدرة على التواصل مع الآخرين، الوعي بالتحديات، القدرة على التكيُّف مع التغيُّرات والاضطرابات والمعارضات الإنشائية، والنزاهة. وهرع الخبراء في العصر الحديث بالتنظير والتحليل فيما أُطلق عليه «فن القيادة» و»صناعة القادة»، من خلال العمل على الروح القيادية الفطرية. ولا تنحصر القيادة على عناصر محدودة، بل إنَّ أهم عنصر بلا شك هو الذكاء. ولقد أثبتت البحوث والدراسات أنَّ الذكاء فوق المتوسط هو عاملٌ مهمٌّ جداً لعمليات صنع القرار وحل المشكلات وإصلاح الخلل في المشاريع والأجهزة والإدارات. وصفة «القيادة» هي من المواهب غير الاعتيادية التي من المهم الاهتمام بها وتنميتها. وقد شمل نظام التربية الأمريكي، في تعريفه للموهبة بالقيادة «القدرة القيادية هي أحد مجالات الموهبة الستة التي تحتاج إلى رعاية وتعد من أنماط التفوق العقلي». وهي ترعى بذلك الطلاب المتفوقين فكرياً بتطوير مهاراتهم القيادية، وتتبنَّى مَن تتوسَّم فيهم القيادة من الشباب تطلعاً إلى مهمات مستقبليَّة كبرى، تخدم البلاد ومشاريعها التنموية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وسواءً كان القيادي مشروع ثروة أم ثروة مشروع، فإنه على أية حال ثروة وطنية.