لكيلا يكون عنوان هذا المقال مُلتبساً، عدلت عن أن أجعله (أزمة أنديتنا الأدبية في عقلها الخائف) فهو ليس عقلاً خائفاً ولا متردداً ولا متشوفاً، وهو ليس محاكياً ولا منشغلاً بما يقال عنه قدر ما هو متجمل أو متكسب – ليس مالاً بطبيعة الحال -، ونحن لا يمكن أن نتصور أزمة أنديتنا الأدبية في التناسخ غير المحسوس لفكرة تحويل ما هو – أدبي – إلى ما هو – دون أدبي – ولا يمكن أن نتصور أزمتها أيضاً في المسافة بينها وبين الذاكرة الأدبية، لأنها ربما لا تدرك أن هذه الذاكرة يمكن صناعتها لأنها تاريخ. هذا كله غير ممكن، غير صحيح، والذي يمكن أن نتفق عليه أن أزمة أنديتنا الأدبية في لسانها فقط، وهذه أزمة غير مستعصية يمكن معالجتها، إنما حين تتحوَّل إدارات أنديتنا الأدبية إلى هيئات استشارية – فوق إدارية – شريطة أن يكون فيها عالم اجتماع ذو ثقافة اجتماعية واسعة واختصاصي دعاية وإعلان يحيلان العقل المشترك العام إلى عقل أدبي محض يطير إلى قاعات الأندية بجناحين دافعين، يقعد على أحدهما عالم الاجتماع وعلى الآخر اختصاصي الدعاية والإعلان. إنما ما الذي نعنيه بكون أزمة أنديتنا في لسانها، ليست في عقلها الخائف لأنه غير خائف في الحقيقة ؟! نعم .. أزمتها في لسانها، ولسانها هذا هو الطبيعة الغالبة على عقلها الإداري وعقلها الأدبي على افتراض أننا بإزاء عقل أدبي. أنا لا أنفي – للأمانة – هذا العقل الأدبي بشكل مطلق، لكنه ليس هو الغالب مع شديد الأسف. إن هذه الطبيعة مفرغة من هم صناعة ذاكرتها الأدبية، هذه الذاكرة الأدبية يمكن صناعتها، وهي ذاكرة جماهير يمكن استقطابها، فإذا لم تبلغ أنديتنا الأدبية بعقلها الإداري وعقلها الأدبي أن تستقطبها فهي فعل ثقافي بغير ذاكرة أدبية، وهي إذاً فعل غير متوجه إلى صناعة الأثر. هناك ارتباط وثيق بين تحقق الأثر الأدبي واستحضار الذاكرة التي هي ذاكرة الناس، والذي يحدث أن الناس يظنون أن هذه القلاع الأدبية محظورة إلا على العقول المتأدبة الطامحة، ولأجل ذلك فإن مهمة هذه الأندية ثقيلة، هي بحاجة إلى التخفيف من هذه الأزمة المركبة لتبلغ أن تكون لها ذاكرة أدبية. إن لغة لسانها غير مفهومة لهؤلاء العامة، وقد يكون من المناسب أحيانا أن نتوسل بفعل غير ثقافي أو غير أدبي لاستقطاب الناس إلى ما هو أدبي، إنه شيء يشبه الطعم لتعديل ذاكرة الناس ومن ثم صناعتها. هل يمكن أن نستعين بلسان الشعر الشعبي، كيف فعل وهو يصنع الذاكرة الشعبية لجماهيره بهذه الكثافة ؟ هذا الشعر تحول إلى مارد ثقافي بغير أن ترعاه أندية ثقافية ولا حتى اجتماعية، قد يتبادر إلى أذهاننا أن مؤسسات إعلامية عملاقة تتبناه، لكن هذا الأمر لاحق لطوفان القصيدة الشعبية ليس سابقا له، إن مؤسسات إعلامية مترفة قد التفتت له بعد أن صنع ذاكرته الأدبية في شقها الشعبي بلسانه المؤثر العملاق. لماذا لا تنظر أنديتنا الأدبية – إن كانت ترى – في صفة هذا اللسان الغالبة عليه وتحاول محاكاتها؟ أين هو الفرق ؟ هل هو فرق نخبوي اعتذاري تبريري واهم؟ الذي أراه أن الفرق هو في الوحشة التي بين العقل العام وبين الكيان الاعتباري المتوهم المتضخم لأنديتنا الأدبية، مع أن في هذا العقل العام عقلا أدبيا محضا غير منظور – لم يستثمر – وقد يفوق في منزلته الأدبية كل قيمة العقل المتأدب في أنديتنا الأدبية. لماذا لا يكون هذا ممكنا ونحن نتحدث عن عقل غنائي – مثلا – كأن تستمع إليه ذاكرته بذوق عبقري وهو يغني بلحن عبقري: صحيح جرحتي الظلام بالخد وبنور الجبين .. هذا مقطع شعري أدبي باذخ للشاعر بدر بن عبدالمحسن، وكل الاختلاف أن الوعاء اللغوي يميل إلى تلهيج اللغة. والواقع أن المسافة بين أنديتنا الأدبية وعقل المجتمع أو إقبال الجماهير إنما هي راجعة إلى العجز عن الاستقطاب وصناعة الاهتمام، ليس إلى طبيعة الأدب نفسها. وقد قلت من قبل إن عمل الأندية ينبغي أن يتوجه إلى تكريس الكثرة لصفة العقل المتأدب الذي يلتفت إلى جماليات اللغة حتى يبلغ الاستمتاع بها، ليس إنتاجها. ينبغي أن تغير الأندية الأدبية من آلياتها الإعلامية لتلم شعث عقلنا الأدبي المحض المنثور في العقل العام ولتتجاوز أزمتها مع الزمان الذي هي فيه أيضا.