بدأت رحلة «الشرق» إلى دولة جنوب السودان بمعاناةٍ لازمت مراسليها منذ أن وصلوا إلى مقر سفارة جوبا في الخرطوم، ثم استمرت المصاعب في مطار العاصمة الجنوبية، مروراً بالبحث عن فندق ومحاولة التقاء المسؤولين الرسميين. ذهبت «الشرق» إلى جوبا لرصد تفاصيل دولة ناشئة تبحث عن فرص الاستثمار والظهور عبر وسائل الإعلام، كما يقول وزير الإعلام في حكومتها برنابا بنجامين. وخلال هذه الرحلة اختلطت الجوانب الإنسانية والاجتماعية بما هو سياسي واقتصادي، كما لم يكن البُعد التاريخي غائباً، تحدثت «الشرق» إلى مسؤولين في الحكومة وإلى مواطنين، وتعرفت على حجم المشكلات والتحديات التي تواجه هذه الدولة، وحاولت استشراف مستقبلها القريب. ونحن جالسون ليلة الأحد في مقهى «ست الشاي» بالعاصمة جوبا، جاء أحد المبشرين يحمل مكبرا للصوت ويقول: «إن المسيح حذركم من الزنا»، سألت من بجواري: «لماذا يقول ذلك؟» فردَّ: «الزنا منتشر هنا بشكل كبير وفي مثل هذه الليلة يزداد، فهي عطلة»، قلت: «وهل هناك مَن يحمل مكبر صوتٍ من المسلمين ليحذر كما فعل هذا المبشر؟»، قال: «لا أعتقد، فهم لا يجرؤون على ذلك، معظم الأهالي يرتادون الكنيسة لا المساجد». عجبت من أن الدعوة الإسلامية ليس لها وجود في جوبا أو في غيرها من مناطق جنوب السودان، وعجبت أيضا من استغلال حملات التبشير الضعف الاقتصادي في دول إفريقيا والتحرك داخلها بترتيب ومنهجية. وفي هذا الإطار، وجَّهت قيادات المسلمين في جنوب السودان نداءً لحكومة وشعب المملكة باعتبارهم حراسا للعقيدة الإسلامية حول العالم، بالعناية بأوضاع المسلمين في الدولة الوليدة من خلال شراء أراضٍ لإنشاء المدارس الإسلامية والمساجد عليها، فضلا عن العمل على زيادة حجم الأوقاف الإسلامية في الولايات والمدن الكبرى عبر شراء أراضٍ وتسجيلها في إدارة الأوقاف الإسلامية، وبناء عقارات ثم تأجيرها لإيجاد مصادر تمويلٍ لعدد من برامج ونشاطات المسلمين الجنوبيين وتقويتهم اقتصاديا. وأكدت هذه القيادات، في تصريحاتٍ ل «الشرق»، أن الدولة لا تمنع الدعوة الإسلامية ولكنها في الوقت نفسه لا تمنح الأراضي المجانية لتشييد المساجد أو المدارس أو الأوقاف الإسلامية عليها، «لذلك على الخيِّرين من منظمات وجمعيات إسلامية سعودية وخليجية وعربية التواصل مع إخوانهم في الدولة الجديدة، وتقويتهم اقتصاديا من خلال شراء أراضٍ بِحُرِّ مالهم، وتسجيلها كأوقاف إسلامية في الدولة، لمنع أي تغول عليها من أي جهة كانت»، حسب قولهم. هذا التغول لاحظته عندما علمتُ بتحويل هيئة الإغاثة إلى مدرسة، وتحويل مسجد إلى كنيسة في جوبا، مع الأسف لم نستطع تصوير المدرسة ولا الكنيسة لأن الشرطة العسكرية استوقفتنا، ومنعتنا من إكمال التصوير، وأجبرتنا على مسح الصور دون أن تبدي أي سبب لذلك، كما تم سحب البطاقة الصحفية التي منحتنا إياها وزارة الإعلام. في السياق نفسه، يدعو كبار المسلمين في جوبا المملكة وبقية الدول العربية والإسلامية إلى تقديم المنح الدراسية للطلاب المسلمين من أبناء جنوب السودان، وتدريب الدعاة الجنوبيين للعمل بين ذويهم، ويعتبر هؤلاء جنوب السودان موقعا مثاليا لنشر الإسلام بسهولة، نظرا للتسامح الديني لدى شعب الجنوب، إذ يوجد في البيت الواحد وداخل الأسرة الصغيرة مَن هو مسلم ومَن هو مسيحي. الاشتراك في السلطة على صعيدٍ آخر، يطالب المسلمون هنا حكومة جنوب السودان بإشراكهم في السلطة وإدارة الدولة، وعدم هضم حقوقهم السياسية، لكون دستور الدولة العلماني منح الجميع حقوق المواطنة وحرية العقيدة دون تمييز، لكنهم قالوا إن الدستور الحالي لا يضمن حقوق المسلمين، وأنهم لا يرون حقوقهم في الدستور المقبل «الدائم». ويلفت المسلمون هنا إلى كون رئيس الدولة ونائبه ورئيس البرلمان والوزراء من المسيحيين في حين لا يوجد تمثيل للمسلمين، معتبرين ذلك تمييزا واضحا ضدهم رغم أنهم يمثلون، وبحسب تقديراتهم، نحو 30% من شعب جنوب السودان. ويعتقد المسلمون أن هناك مَن يرى في الإسلام عدوا متبقّيا بعد التخلص من الشمال كعدو أول، ويؤكد المسلمون أن هذه الفئة تعمل على إهدار حقوقهم. ويدعو كلٌ من مسؤول الأوقاف والحج والعمرة في المجلس الإسلامي لجنوب السودان الدكتور عبدالله دينق نيال، وأمين الاتصال الخارجي والتعليم في المجلس موسى المك كور، ونائب رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية الأمين العام للزكاة في المجلس الإسلامي حامدين شاكرين، إلى ضرورة تمثيل المسلمين الجنوبيين في الحكم، حفاظا على النسيج الاجتماعي والسياسي والتعايش السلمي في البلاد. دولة علمانية ويرى المسلمون في دولة الجنوب أنه إذا كانت الدولة علمانية فإنه ينبغي أن يتم تمثيل كل أصحاب الديانات فيها، كما هو حاصل في كينيا وأوغندا والدول الأوروبية، كما يدعو المسلمون إلى أن يكون في الدستور الجديد فقرة واضحة تفيد أن اللغة العربية هي اللغة الثانية في البلاد بعد اللغة الرسمية وهي الإنجليزية، على اعتبار أن العربية هي اللغة التي يتحدث بها ويفهمها كل شعب جنوب السودان، حتى أن قادة الدولة أنفسهم يستخدمونها في لقاءاتهم الجماهيرية. وحول الأوقاف الإسلامية التي قيل إن الحكومة صادرتها، نفى الدكتور عبدالله دينق نيال، أن تكون حكومة الجنوب صادرت أياً من الأوقاف الإسلامية، مشيرا إلى أن ما يقال عن ذلك في الصحف ووسائل الإعلام غير صحيح، ولافتاً إلى أن المسلمين الجنوبيين القادمين من شمال السودان هم الذين هاجموا الأوقاف الإسلامية، واستولوا عليها، حتى إن بعضهم استقوى بدوائر أمنية معينة، استنادا على علاقاته الشخصية، والدولة بريئة من الاستيلاء على أوقاف المسلمين. وطالب نيال، حكومة بلاده بإنشاء محاكم خاصة بالأحوال الشخصية لمسلمي جنوب السودان، مشيرا إلى أن المسلمين هنا قادرون على التعايش الديني بدرجة كبيرة قد لا تتوفر في أي دولة مجاورة، مضيفا «التعايش الديني موجود في الأسرة والقبيلة والدولة، وممارسة الشعائر الدينية المختلفة في البيت الواحد من الأمور المألوفة في الجنوب». وشدد نيال، على أن المسلمين في جنوب السودان يرفضون التطرف الديني، وهم مستعدون للدفاع عن الحدود ضد أي مجموعة متطرفة تستهدف الدولة واستقرارها باسم الدين. وشاركه في الرأي الأمين العام للزكاة في المجلس الإسلامي لجنوب السودان، حامدين شاكرين، إذ قال إنه لا خوف على الإسلام في الجنوب فهناك تسامح وتعايش عميق وقبول للآخر بسبب التنوع والتداخل الكبير، الذي يبدأ من الأسرة، لكن هذا لا يمنع أن يكون هناك بعض المضايقات والمشاحنات لكن هذا ليس ممنهجاً أو صادراً من سلطة أو غير ذلك بل حالات فردية، ولكن على وجه الجملة الحياة هنا فيها تسامح وتعايش، والإسلام يمكن أن ينمو في الجنوب. من جهته، قال أمين الاتصال الخارجي والتعليم في المجلس الإسلامي، موسى المك كور، ل «الشرق»: «طلبنا مقابلة رئيس الجمهورية ونائبه لعقد اجتماع موحد بيننا كجهة تمثل المسلمين وهم كحكومة، لأننا لا نرى حقوقنا وأنفسنا في الدستور القائم وربما في الدستور المقبل». قضايا أسرية وأضاف موسى المك كور، قائلا «أكبر مشكلة نراها الآن هو عدم وجود قانون يفسر كيفية معالجة القضايا الأسرية، أضف إلى ذلك عدم ورود نصوص توضح حقوقنا كمسلمين في الدستور كقانون الأحوال الشخصية، حيث لا توجد محاكم شرعية في البلاد للفصل في قضايا الزواج والطلاق، والميراث، وتنظيم الأوقاف التي نراها في دولٍ مثل كينيا، وأوغندا، وتنزانيا وغيرها من الدول الإفريقية، التي فطنت لهذا الأمر، فقامت بتأسيس محاكم خاصة بها». وأكمل كور «إما أن تعترف الحكومة بأننا مسلمون موجودون هنا ولسنا مستوردين من الخارج ومن ثمَّ تعترف بحقوقنا، أو أن تتنكر لنا وهذا بالتأكيد سيُدخِل البلاد في نفق مظلم معنا، وربما مع منظمات حقوق الإنسان الدولية التي تعترف بحقوق الأقليات الدينية حتى ولو كانت تتألف من 100 شخص، وسنرفع كل ذلك للرئيس ونائبه إذا أتيحت لنا فرصة مقابلتهما، فالتصالح والتعافي لا يمكن تجزئتهما. كيف أصالح الآخرين وأنا أيضا مظلوم؟». بدوره، شدد محدثنا الأول نيال، على مطالبة مسلمي الجنوب بإنشاء محاكم للأحوال الشخصية خاصة بالمسلمين، وتابع: «لكن اللجنة الدستورية رفضت إلا أننا سنستمر في هذه المطالبة، وسنحاججهم بالدستور الكيني، الذي ينص على تنظيم الأحوال الشخصية للمسلمين». وحول مشروعه الخاص بترجمة القرآن الكريم إلى لغة (الدينكا) أكبر قبائل جنوب السودان باعتباره أحد أبنائها، أوضح نيال «بدأت في ترجمة معاني القرآن بطلب من دار مصحف إفريقيا في الخرطوم بالتعاون مع جامعة إفريقيا العالمية، حيث قمت بترجمة معاني القرآن لجزء (عم) بلغة الدينكا، وهناك ترجمات للغات (النوير) و(الباري)، ونسعى إلى مواصلة ترجمة بقية أجزاء القرآن الكريم تدريجياً وهذا يحتاج إلى مشروع ليكتمل». ويعتبر المسلمون أن صورة الحرب الجهادية التي أعلنتها الخرطوم خلال النزاع الأهلي بين الشمال والجنوب خلال الفترة من 1989 إلى 2005 عكست نظرة سيئة عن الإسلام لدى الجنوبيين من غير أتباع الإسلام، كادت أن تنسف صورة التعايش الديني الذي يشتهر به المجتمع في الجنوب. موسى المك كور في حديث مع موفد «الشرق» عبدالله دينق نيال طبيبة بريطانية تعمل في منظمة غربية تقدم خدماتها في قريةٍ بأدغال الجنوب (الشرق) قوات حكومية تتعقب المتمردين على السلطة المركزية جنوبية من قبيلة الدينكا ويبدو وشم القبيلة على وجهها البحث عن الماء وعن الحقوق مطالبات المسلمين (جرافيك الشرق)