رواية «خط الاستواء» واحدة من الأعمال الأدبية التي ضربت فيها الحكاية بجاروفها محصول الذاكرة، عائدة به كتلة بعد أخرى إلى المكان بدلاً من بناء الأحداث تصاعدياً كما هو شائع. فالحمولة الأولى للجاروف لم ترم أولاً بفاتحة الرواية، بحسب التسلسل المتعارف عليه؛ لمتوالية الأحداث في الروايات السائدة بل كانت في بناء الرواية عكس اتجاه الزمن بحيث شقت الحكاية طريقها في شكل أفقي من آخر نقطة بدأها الحفيد صلاح رجوعاً في الزمن والأحداث إلى الخاتمة الحاسمة، إلى قبر الجد صالح في الغرفة الصغيرة التي تُركت نهباً للخواء والصمت بعد رحيل العائلة. إنها الرحلة التي بدأها الحفيد بحثاً عن جده، أصل الحكاية الأول، وبمساعدة من عليا الأصل الثاني. فالأساس الذي قامت عليه الرواية/الحكاية رفعه كل من الجد صالح ذي (الأنف الطويل الدقيق والعينين الكبيرتين والبشرة الفاتحة) والجدة عليا (ضئيلة الحجم، حنطية البشرة، قاسية الملامح). والكراسات التي مع الحفيد، وهي كراسات قديمة فيها مذكرات عن الأسرة منذ نشأتها، كانت تهديه إلى المسار، وتضيء له الطريق، كما كانت تتيح له في القطار خلوة مهمة مع تاريخ العائلة والأحداث التي جرت في الماضي، حاملة معها وصفاً للمكان «خط الاستواء» وألواناً متعددة للحياة هناك، للبشر والأبنية والطقس والفصول والعلاقات الاجتماعية، وتحديداً، وهذا أكثر أهمية، لقصة الارتباط المصيري بين الأصلين، صالح وعليا، وكيف بدأت بذور العاطفة في اللقاءات الأولى بينهما تحدد شكل الأجيال التي تلت. ليس هذا فحسب ما تذكره الكراسات وواقع العائلة، وإنما أيضاً بدأت العلاقة بين صالح وعليا تفتر رويداً بعد الابن الأول. ولئن كانت عليا على قدر من التسامح مع المكان ومع عائلة آل غانم بحيث قنعت، وإن على مضض، بمصيرها في بيت العائلة الكبير، فإن زوجها صالح الذي كان يحلم بمغادرة بلدة «خط الاستواء» الصغيرة جداً لم يقدر على الفكاك من حلمه طيلة مكوثه فيها دون رغبة منه، كان يحلم بالمدينة، بحياة مختلفة في مدينة فيها مكتبات وسينما، ويحاذيها البحر. وعلى الرغم من أنه امتهن حرفة نجار في منجرة أبيه، وراح يطوع الخشب لتصاميمه اللافتة، إلا أنه بمراقبته زوجته عليا وهي تحمل للقرية أفكارها في تغيير نمط الحياة الاجتماعية، وتقوم بدور إيجابي في تحويل بعض العادات التقليدية في الأفراح مثلاً إلى نسق مدني، بمراقبته عليا وهي تفعل ذلك بدأ يشعر بالمسافة تزداد بينه وبين حلمه، وعلى يد عليا راحت آماله في السفر تخبو. ومن الابن الأول، ومن اندماج عليا في البيئة العائلية على ذلك النحو، تضاءل في نفسه حلمه الكبير، ومن هنا بدأ يقابل نشاط امرأته بابتعاد نفسي يظن أنها هي السبب في حدوثه، وهذا أحدث انفصالاً بينهما على نحو ما ذكرته الكراسات، وراح إحباطه يصوغه في شخصية أخرى منكسرة وصامتة دون أن تفارق حلمها العتيد. وهو الحلم الذي راح يمتصه شيئاً فشيئاً، ويأكل حياته قطعة قطعة. ومن الطبيعي والحال هذه أن يمضي قدماً إلى نهايته التي صارت، وقد انقسم إلى شخصين كلاهما لا مفر من وجوده. الشخص المتمثل في الزوج الذي لم يتوقف عن دوره في إنجاب الأبناء، والشخص المتمثل في صالح الحالم، الأول يطغى عليه الجانب الآلي العضلي، مع شيء من العاطفة اللحظية، لإتمام الدور، والثاني يطغى عليه الحلم. ومع تعطل الحلم، واستمرار دور الزوج، كان ثمة ما يلتهمه من الداخل، كونه ظل معطلاً وغير قابل للتنفيذ، الأمر الذي جعله يستفحل ويتضخم حد القضاء عليه في صومعته أمام النافذة التي لم يكن يمر منها إلا بصره منطلقاً في الأفق فحسب. هذا هو باختصار ما تحكيه رواية «خط الاستواء» الصادرة عن منشورات إي-كتب لندن 2012، للكاتبة الأماراتية فاطمة الناهض، الرواية التي كُتبت بهدوء، مع شيء من الرتابة في بناء الأحداث، وشيء من البطء في الحركة، وهي رتابة سيبدو معقولاً أن نقارنها بما جرى في تلك البقعة إذا قلنا بأنها تتمثل رتابة الحياة في القرية، وهو بطء يستمد من الحركة شبه الساكنة هناك إيقاعه ورخاوته. كما أن اللغة كانت متفقة وطبيعة المكان وثقافته وبساطة أهله وعفوية أفعاله وملامحه، ما يشير إلى اختيار مناسب لمستوى اللغة وفقاً لمستوى الوعي الاجتماعي والثقافي لأهل خط الاستواء، ولو جاءت اللغة محملة بنفَس مدينة حديثة مثلاً لربما نقلت مستوى مخادعاً للحياة ما كان يجب أن يكون. الرواية كعمل أول للكاتبة، دون الإقلال من موهبتها وإمكاناتها السردية، لا تجانف الانطباع الذي يغلق الصفحة الأخيرة على ملاحظة ما تبديه الكاتبة من اهتمام بالتفاصيل في رسم الشخصيات ومدها بالحركة اللازمة لملء الحيز الذي تشغله، لا إطناب مضجر ولا اقتضاب مخل. لا أدري لماذا تذكرت التكون الأول للإمارات العربية المتحدة وأنا أقرأ الرواية، فالعمل يتحدث عن بذرة التكون الإنساني والاجتماعي في مكان مقفر لكنه ينمو بدءاً من العائلات، ثم لا يلبث أن يصبح تجمعاً بشرياً كبيراً، وإن كانت العائلة واحدة، عائلة آل غانم، التي بعد أجيال قليلة هاجرت إلى المدينة واندمجت فيها. شخصية عليا محورية ورئيسة وتحمل مقومات المرأة التي لديها رؤية واضحة عن التغيير البناء. امرأة تريد أن يكون لها أثر إيجابي في المجتمع، حتى وإن كان المجتمع عبارة عن عدد محدود من الناس يقطن قرية في غاية الصغر، وذلك بما لديها من قدرة على فهم المجتمع أولاً، ثم التأثير فيه دون إثارة حساسيته المزمنة من التغيير. أما شخصية صالح، زوجها، فيغلب عليها النمط الانقيادي على الرغم مما يعتلج في داخله من ولع بالهجرة إلى مدينة كبيرة تستوعب أحلامه ويجد فيها ذاته. إذاً هما شخصيتان بينهما اختلافات في الرؤى والتطلعات، ومن هذه الاختلافات تكونت في الرواية صور عديدة من حياة أسرة آل غانم في القرية الوادعة ابتداء، ثم في المدينة الصاخبة بعد ذلك. * كاتب وروائي سعودي