تمرّ بالإنسان لحظات في حياته لا تُنسى لروعة وأثر هذه اللحظات كما قال شوقي: قد يضيق العمر إلا ساعة وتضيق الأرض إلا موضعا وأفتش في ذاكرتي فتقفز هذه اللحظات من الماضي ماثلةً أمامي، وبعد سفر طويل في أرض الله الواسعة طافت بي ذكريات عما رأيتُ وسمعت فذهب الكثير وبقيت المواقف المؤثرة لا تُنسى ولا تغيب، أذكر في الجزائر وفي ولاية عنّابة عجوزاً كبيرة حضرت لتستمع لبعض المحاضرات في يدها دفتر ومعها مسجل تكتبُ مع التسجيل لحرصها وهي تصارع الشيخوخة وتقدّم العمر، ولكنني عجبتُ لهذا الشغف والتّعلّق بالبحث عن الفائدة وحفظ المعلومة، وقد شاهدتُ هناك آلاف الناس كباراً وصغاراً لكنني نسيتُ ما مرّ وما علق إلا ما أثّر في نفسي، وفي الجزائر أيضاً، في جامعة الأمير عبدالقادر في قسنطينة بدأ الحفل بالنشيد الوطني الجزائري الذي هو من كلمات موفدّى زكريا شاعر الثورة الجزائرية الذي قتله الفرنسيون في الزنزانة وكان نشيداً مشجياً مبكياً حماسياً، يقول في بعض أبياته: يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يُطوى الكتاب يا فرنسا قد دنا وقت الحساب فاستعدي وخذي منّا الجواب وفي أثناء النشيد قام كل الحفل وشاهدتُ الجزائريين فتذكرتُ مع الأنشودة نضالهم وكفاحهم وما قدّموه من آلاف الشهداء فوقع الأثر في نفسي وبقي إلى الآن، وفي الهند كنّا في ولاية غجيرات في إحدى الجامعات الإسلامية فقام عالم محدّث حافظٌ زاهد بلغ الثمانين من عمره يصب على أيدينا الماء قبل تناول الطعام ونحن شباب في سن أبنائه فأبينا ورفضنا تقديراً له فأقسم أن يفعل وأخذ يقول: أنتم العرب أحفاد الصحابة فاستحيينا أمام الناس من هذا المشهد خاصة أنه عالم كبير ومحدّث متمكن في فنّه لكن هذا هو العلم يرفع صاحبه كلما تواضع لربه (يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، وزرتُ مخيّم اللاجئين السوريين في الزعتري في الأردن فلقيتُ طفلة قُتل أبوها داخل سوريا في مواجهة مع النظام فسألتني أمام الناس: هل سوف ألتقي بأبي في الجنة؟ قلتُ نعم إن شاء الله برحمة أرحم الراحمين، وهذا المشهد مسجل ومصوّر وقد بثّته قناة بداية الفضائية، وهل أحد عنده ضمير ينسى مثل هذا السؤال مهما مرّت الأعوام وتعاقبت الأيام؟ وفي لندن التقيتُ بشاب صومالي يُسمى محمد حسن عمر في أثناء إلقاء محاضرة في أحد المراكز الإسلامية هناك فأخبرنا بقصة حياته؛ حيث كان في أحد مخيمات اللاجئين في الصومال يتيماً مشرّداً فتعلّم العربية ثم حفظ القرآن مجوّداً ثم ذهب للدراسة في بريطانيا وصار إمام الجامع وله دروس وأتقن الإنجليزية ويحضّر الدكتوراة وصار وهو داعية إلى الله فقلتُ له: قصة حياتك تستحق أن يُكتب عنها وقارنته بشباب عندنا مترف منعّم يعيش الفراغ والخمول ضاع عمره في توافه الأمور، وفي أديس أبابا في إثيوبيا أخذونا إلى مدرسة الأيتام لتحفيظ القرآن ووجدنا الأطفال ذكوراً وإناثاً في مشهد مؤثر وهم جالسون على الأرض في غرف قديمة يدرسون كتاب الله في ألواح من الخشب على شظف من العيش مع فقد الوالدين والفقر، فانكسر القلب لهذا المشهد، وتذكرتُ حياة كثير من المترفين والأغنياء وهم يصبون المال صباً على شهوات نفوسهم في بذخ عجيب وإسراف رهيب، وقلتُ في نفسي ليتهم يشاهدون ما شاهدنا ويبصرون ما أبصرنا، ومن المشاهد المؤثرة التي لا تُنسى في حياتي ما رأيته وعشته مع الطبيب الألماني الذي أجرى لي عملية الركبتين الدكتور (قطني) في مدينة ميونخ في ألمانيا فرأيت من الأمانة والتواضع وطيب المعشر والدقة في المواعيد واحترام الوقت واللطف بالمريض ما فاق الوصف حتى دعوته إلى عزيمة بعد الشفاء من العملية فرأيت من الثقافة وحسن الخلُق ما يفوق الوصف، وقلتُ في نفسي لا ينقص هذا البروفسور إلا الإسلام، وتمنيت أن كثيراً من المسلمين عندنا يحملون هذا الخلُق والتواضع لكنك تفاجأ بهم مع جهلهم وغبائهم وهم متكبّرون عابسون متجهّمون فأقول في نفسي: علامَ الكِبر؟ جهل وأميّة وتخلّف وكِبر؟ حشفاً وسوء كيل، أعمى ويناقر، وفي جاكرتا في إندونيسيا في حفل معرض الكتاب الذي افتتحه نائب الرئيس أنشد في الحفل منشدان مشهوران على مستوى إندونيسيا بأنشودة: اقرأ، ما أنا بقارئ، إشارة إلى لقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- بجبريل عليه السلام لأول مرة في غار حراء ومع حسن الصوت وبراعة الأداء في الإنشاد نقلونا إلى ذاك المشهد في الغار فغلب البكاء على الناس في الحفل فصار الموقف مبكياً مشجياً مؤثراً، وفي فرنسا في مدينة (كرشفيل) وجدنا شاباً تونسياً ذكيّاً مثقّفاً حفظ نصف القرآن بنفسه بعدما سافر إلى فرنسا واطلع على كثير من الكتب، وأسلم على يديه أكثر من عشرة من الفرنسيين في الشركة التي يعمل بها ورأيتُ من ذكائه وهمّته ونشاطه وحرصه على العلم والتّزود من المعرفة واعتزازه بدينه ما يفوق الوصف، فقلت: سبحانك ربّي تهدي من تشاء هذا شاب غريب في بلد مفتوح على كل شيء والإغراء على هذا الشاب، ومع هذا صبر واحتسب وجاهد نفسه وحفظ دينه وتزوّد من العلم ودعا إلى سبيل ربّه وصار عندي مضرب المثل للشاب المسلم الصادق المثابر المحتسب الناجح، فقلت: يا ليت شباب قومي وفتيان بلادي يرون هذا الشاب ويسمعون حديثه علّه أن يحرّك في نفوسهم الهمّة والأمل.