«انقلوا عن الدكتور محمد الجاسر وزير التخطيط والاقتصاد السعودي أنه يقول: إنتاجية المواطن السعودي لا تليق بنا»، هكذا اختتم الزميل الرائع عبدالله المديفر- كعادته- برنامجه «لقاء الجمعة» أول أمس على «روتانا خليجية»، بهذه اللازمة، وقد أعجبني تمكن المذيع من إدارة الحوار وجودة الإعداد والاستعداد له، أمَّا الدكتور الجاسر فقد كان متميزاً وواضحاً ومتمكناً ، وأنا لن أناقشه في هذه اللازمة عن إنتاجية المواطن، فأنا أتفق معه في النتيجة، لكني آمل منه، وبحكم اختصاصه واختصاص وزارته، أن يبحث في الأسباب التي جعلت إنتاجية المواطن لا تليق بنا، وسيجد وفق ما أعتقد أن الحكومة هي السبب، وهو اعتقاد انطباعي، سببه ما ألاحظه من تدفقات الدعم الهائل الذي يفضي إلى التبذير والكسل، فالماء بلاش، والبنزين بلاش، والسلع مدعومة، وحافز، والضمان، وصناديق الإقراض من كل صوب دون تنسيق ، والتبرعات من الدولة والموسرين لسداد ديون المعسرين هائلة متدفقة، والتسيب الإداري في الحكومة حدِّث ولا حرج، مع أن «أرامكو» وأنظمة الضبط والتحفيز فيها منذ ثمانين سنة، ولم نستفد منها، فاختلط الحابل بالنابل، وأصبح الموظف المنضبط المنتج عُملة نادرة وبلا حوافز لا معنوية ولا مادية، وحلت الكفاءات المتدنية والمتسيبة في مواقع ومفاصل الإدارة في كثير من قطاعات الدولة، فأحبطت المتميز، وشجعت تكاثر الذين إنتاجيتهم «لا تليق بنا»، بل ونقلت عدواها إلى المحتاجين للعمل في القطاع الخاص، فأصبحوا يبحثون عن الراتب الجيد ومعه الراحة والتسيُّب، ولي تجربة شخصية سأرويها للتدليل، حيث إنني أحتاج إلى سكرتير يساعد مدير مكتبي بعد استقالة السكرتير أحمد العبدالكريم الذي كان متميزاً ومنتجاً، لكنه وجد وظيفة في الحكومة عند أهله في الأحساء، فاستقال على الرغم من أن دخله عندنا أفضل، فالمؤسسة توفر راتباً جيداً وبدل سكن وبدل نقل وعلاجاً….. إلخ، لكنها لا توفر الراحة ولا تسمح بالإهمال. المهم أنه خلال الشهر الماضي جربنا شابين سعوديين متميزين رائعين أداءً وخلقاً، لكنهما انسحبا واحداً بعد الآخر، بعد أن جرب كل منهما العمل أسبوعاً، ولا مبرر لديهما سوى أن العمل كثير ومنضبط، وهما يريدان عملاً أكثر راحة، ويسمح لهما بالخروج والدخول متى شاءا، إضافة إلى ارتباطاتهما الشبابية، والعائلية، وانتظار كل منهما لوظيفة قادمة من وزارة الخدمة المدنية، لدرجة أن أحدهما كان ومازال يعمل بوظيفة في قطاع آخر بنصف الراتب المتاح عندنا. إن آلية الدعم الذي تقدمه الحكومة، ونظام العمل الحكومي- فيما أعتقد- هما السبب الرئيس الذي أفضى إلى أن إنتاجية المواطن السعودي «لا تليق بنا»، وهنا لابد أن أقول إن «آلية الدعم الحكومي ونظام الخدمة المدنية لا يليقان بنا»، فإذا أردنا رفع مستوى الإنتاجية، فلْنُعِد النظر في الدعم كله، ولن نعدم آلية دقيقة توصله إلى المحتاج له فعلاً، فقيراً كان أو عاطلاً حقيقياً. وهنا يا معالي الوزير سأستعيد معك جزءاً من مقال كتبته ونشر في «الشرق» بتاريخ 22 نوفمبر 2012م تحت عنوان «هذا الدعم لن يستمر: إهدار ثروة وتشجيع تبذير» ومما قلته فيه: «خذ مثلاً: البنزين الرخيص جداً الذي يستفيد منه المواطن فقيراً ومتوسط دخل وغنياً، وسواءً يملك سيارة واحدة أو عشر سيارات، وسواءً كانت سياراته للاستخدام الشخصي أو للاستثمار، وقس على ذلك الماء، الذي يستفيد منه بالتساوي صاحب المسابح والحدائق في قصره أو فيلته، وذاك الذي يبحث عما يكفيه شراباً واغتسالاً. ومثل ذلك هذه المواد الغذائية المدعومة المتاحة للجميع بالتساوي، فضلاً عن أن المقيمين يتساوون مع المواطنين في كل ما تقدم، فهل هذا الذي يحدث في هذه المواد والسلع المتاحة للجميع يستحق المطالبة باستمراره، واستنكار كل صوت يدعو إلى إعادة النظر فيه جذرياً. ماذا لو تم إيقاف الدعم عن كل هذه المواد والسلع نهائياً من الآن، وتركت لتباع بسعرها الحقيقي، وتم توجيه مليارات الدعم إلى جيوب محتاجيها من المواطنين وفق خطة- أظن من السهل إعدادها- منظمة يمكن اقتباسها من إحدى الدول المتقدمة مثل بريطانيا مثلاً أو غيرها، وبصورة مقننة ودقيقة، تعلم الناس معنى الترشيد الحقيقي، وتحميهم من هاوية الفقر ومذلة الحاجة بصورة دائمة، أكرر دائمة، وعند دائمة هذه سأتوقف لأقول بصريح العبارة: إن مئات المليارات التي تدفعها الدولة الآن لدعم البنزين وبقية المحروقات، والمياه والمواد الغذائية وغيرها، لن تستمر طويلاً، فالحكومة تعتمد في ذلك الإنفاق على مبيعات السلعة الوحيدة المعروفة – البترول-، وهي في سوق متقلبة الظروف والمزاج، ومتى اتجهت هذه الظروف وذاك المزاج إلى جانبها السلبي، فإن الحكومة بطبيعة الحال ستعجز عن توفير مليارات الدعم، وستضطر- حيث لا حل- إلى إيقاف دعم هذه السلع والمواد، وستتركها لظروف السوق، وحينئذ ماذا نفعل أمام هول المفاجأة وقسوة الحقيقة؟». هذا هو رأيي في الدعم، أمَّا نظام الخدمة المدنية- وقد سبق أن كتبت عن سلبياته العميقة منذ سنوات- فلا بد من إعادة النظر، بحيث نرفع همة الكفء المتميز المنضبط من موظفي الحكومة، ونُجبِر ضعيف الكفاءة على التدريب وتأهيل ذاته وضبط سلوكياته العملية، ونجبر المتسيب على الانضباط أو التسرب . وبقي أن أقول إن الدكتور الجاسر قال على شاشة «روتانا خليجية» معلومات مهمة جداً، وآراء متميزة، استفدت منها شخصياً، وليته يكرر مثل هذه الإطلالة الجميلة على شاشات وصحف أخرى، وأسئلة «الشرق» في مكتبه منذ أشهر لم يجب عنها، وليت بقية الوزراء يستشعرون أهمية وخطورة الإعلام، فيتواصلون معه بانتظام، ليوضحوا الحقائق للناس، ويئدوا الشائعات، ويقولوا للشعب هذا نحن، أي أن ولي الأمر لم يخترنا عبثاً، فهذه كفاءتنا وهذه قدرتنا، وهذا ما نفعل من أجلكم تنفيذاً لتوجيهات القيادة، وتلبية لتطلعاتكم، والحقيقة أن كفاءة وقدرة الجاسر تجلت وتكرست- عندي على الأقل- بعد هذه الإطلالة الرائعة، بغض النظر أن يتفق معه أو يختلف أحد من المتخصصين في فنه الاقتصادي والتخطيطي.