مع نهايات كل عام تظهر مؤشرات الفساد العالمية من مراكز ومنظمات دولية، فتنشر تقاريرها عبر وسائل الإعلام المختلفة. بالنسبة لعالمنا العربي فكما هو متوقع سنوياً فقد حافظ على مكانته في سلم الفساد عام 2012م، وأصبح الترتيب السنوي كمجموعات متوقعة شبه مستقرة لدول معينة لمن هم في المقدمة أو المؤخرة أو الوسط. في دول الربيع العربي ما زال الحكم على هذا التحول مبكراً جداً، تحسن طفيف لبضع درجات في ليبيا من 168 إلى 160، وفي مصر تأخر حيث تراجعت ستة مراكز إلى 118. في ليبيا ربما تحسن لأن النظام القديم تمت إزاحته بصورة أكبر من مصر حيث الدولة العميقة والاقتصاد الذي تتحكم فيه قوى الماضي الذي أسست لهذا الفساد. تبدو المشكلة أن معايير الفساد المعتمدة في هذه التقارير ليست كافية لكشف أمراضنا العربية، فالفساد يصعب حصره بتعريف وصفي، وقد اختارت اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد ألا تعرفه. للفساد أشكال متعددة، حيث تختلف صورته من بيئة إلى أخرى. ففي الدول الغنية بثرواتها يتخذ شكلاً مختلفاً عن الدول الفقيرة، ويختلف في الدول المتقدمة عن غيرها بالرغم من مستوى الشفافية العالية لديها وقد كشفت أزمة 2008م شيئاً من ملامح الفساد لديها. الفساد موجود في كل مكان بالعالم بما فيها هذه الدول المتقدمة، هكذا يصرح أحياناً بعض المسؤولين والنخب لدينا لتبرير تقصيرهم، والواقع أن هذه الحقيقة يجب أن تستعمل للتحذير من خطورة الفساد وليس تبريره عندما يتذاكى هولاء، فطالما وجد الفساد حتى في دول وأنظمة عالية الشفافية، فكيف في مجتمعات ودول لا تتمع بشفافية وأنظمة صارمة لمواجهته؟ في مجتمعنا هناك شعور شعبي متزايد ضد الفساد، وأصبح جزءاً من النكتة الشعبية، وهو مظهر نقدي إيجابي بشرط ألا يسهم بحالة من التطبيع النفسي معه، أو أن تفقد الأرقام معناها عندما يتم تناقلها دون وعي بها، وتتحمل كثير من الجهات الحكومية مسؤولية الأرقام التي يتم تداولها عن مشروعاتها إذا لم توضح بنفسها مبررات القيم المقدرة لمشروعاتها. الإعلام الجديد ساهم في رفع مستوى الإدانة بالصوت والصورة واللقطة السينمائية وساعد ذلك الصحافة في كشف بعض مظاهر الفساد. ليس الفساد مجرد رسم كاريكاتوري يتم تصويره كوحش لنفهمه ونحذر منه. الفساد في العصر الحديث مركب ومعقد؛ لأنه يتغلل داخل بنية الإدارة الحديثة في الدولة ويصعب كشفه، وتتطور حيل الفساد ويتخذ أشكالاً متعددة، فالرشوة أو الاختلاس من المال العام لا يحدثان بصورة مباشرة عادة، وإنما يتشكلان بصور قانوينة ليختفيا بين ركام كبير من العمل الإداري، وإذا سلم العمل الوظيفي من هذه الانتهاكات المباشرة وممارسة هذه الحيل، فكيف يكتشف فساد التقصير بالعمل وعدم أدائه بالصورة المطلوبة، وهو داء المجتمعات المتخلفة.. حيث تعجز التقارير الوظيفية عن كشف تقصيرهم. يسمع كثيرون في المجتمع عن الفساد والتقصير دون أن يكون لديهم إدراك لطبيعته في الأعمال الحكومية أو القطاع الخاص، لهذا يتوقع بعض البسطاء أن الفساد عملية سهلة، وليست في حاجة إلى مهارات من نوع خاص، حيث لا تستطيع الأنظمة بذاتها تحصين نفسها منه بصورة كاملة، والتي تصاغ عادة بصورة تحاول إغلاق أي فرصة للفساد البشري في إجراءات العمل البيروقراطي. لقد ساعدت التقنية الحديثة على إغلاق بعض صور التلاعب والفساد الوظيفي لكن ما زال هناك كثير من الأمور التي يستطيع الدخول منها محترفو الفساد. فبعضهم يتحدث عن الفساد دون أن يملك تصوراً كافياً عن طبيعة العمل الحكومي والأنظمة المتبعة لتنفيذ أي مشروع، ولهذا لا يفهم كثيرون بعض أسباب تعثر كثير من المشروعات الحكومية لدينا، لأنهم لا يعرفون المسار المفترض لأي مشروع منذ بدايته كفكرة إلى تنفيذه، وهو مسار بيروقراطي بالغ التعقيد قد يستغرق سنوات طويلة مع وزارة المالية. وهنا تكمن مشكلة بعض المفاهيم السائدة شعبياً الآن، حيث أخذت تتصور الأرقام والمشروعات بصورة فوضوية وكأنها ليست محاصرة بعدد من الاحترازات الإدارية، فصرف المستحقات وكل مستخلص شهري يعتمد على مدى التقدم في بناء المشروع. في نظام المنافسات والمشتريات الحكومية تشير المادة الأولى منه إلى أنه: يهدف لتنظيم إجراءات المنافسات التي تقوم بها الجهات الحكومية ومنع تأثير المصالح الشخصية فيها، وذلك لحماية المال العام. ومع دقة النظام لمنع أي تلاعب إلا أن هناك أموراً يصعب التحكم بها، حيث يدخل العنصر الشخصي، فمثلاً تشير المادة الرابعة من النظام إلى أنه: توفر للمنافسين المعلومات الواضحة والكاملة والموحدة عن العمل المطلوب. ومن يعرف طبيعة المقاولات وخاصة التشغيل والصيانة سيدرك أن كراسة الشروط والمواصفات التي توزع على المنافسين ليست كافية لتكون فرص المنافسة متساوية، حيث يمكن أن تسرب معلومات شخصية لأحد الأطراف تساعده في تقدير القيمة للمشروع والفوز بالمناقصة، لهذا كثيراً ما يتكرر فوز صاحب المشروع السابق لأنه أكثر معرفة في تفاصيل الواقع من المنافسين الجدد. وأحيانا يكون هناك اتفاق بين الشركات المتقدمة ذاتها دون علم صاحب الجهة الحكومية. وقد حاولت المادة الحادية والعشرون معالجة مشكلة ارتفاع قيمة العروض عن أسعار السوق. من الأوهام الشعبية والسائدة لدينا أن الفساد لا يوجد في القطاع الخاص، حيث تعجب البسطاء منظر الصرامة الإدارية والديكور المكتبي عند الدخول لكثير من الشركات.. لكن الفساد في القطاع الخاص له أشكال مختلفة عن العمل الحكومي وقد تكون أسوأ. ويكفي الاطلاع على حال كثير من شركات سوق الأسهم التي يعرفها أي متابع للسوق، ولسوقنا قصة طويلة مع الفساد القانوني وغير القانوني، فخلال مدة قصيرة أصبح لدينا قطاع كامل عن التأمين تنمو فيه الشركات كالفطر. تخلط الرؤية الشعبية ويساعدهم الخطاب الاقتصادي الإعلامي المضلل أحيانا.. بين تذبذبات السوق مهما كانت حدتها كجزء قانوني من طبيعة الأسواق في العالم وبين «الشعوذة المحاسبية» كما يصفها جوزيف ستيغليتز التي تساعد على التلاعب والاختلاس غير المنظور في قطاعات اقتصادية لدينا يصعب أن تخسر مهما تضخم فسادها، فالأرباح والانضباط الوظيفي المتشدد ضد الموظفين الصغار في هذه الشركات.. لا يعني أن الأدوار العليا سليمة لا يشم منها روائح الفساد!