ذات عيادة وبعد أن انتهيت من فحص مريضي الذي تجاوز الستين عاماً وكان يعاني من مرضي السكر والسمنة، قلت له إن علاج السكر مرتبط بالتحكم في الوزن وقمت بإلقاء بيان عليه حول تغيير نمط حياته وضرورة الحمية ونوعية الغذاء والوزن المطلوبين خلال الفترة المقبلة، وقد تركني حتى انتهيت ثم قال وقد علته ابتسامة موقرة (هل تتوقع أن أستجيب لك؟... وأنا في الستين من عمري لم يبق لي من متع الحياة إلا الأكل ولا أستطيع التنازل عنه.. سأكتفي بتناول الدواء ويفعل الله ما يشاء). انتهى كلامه شفاه الله. لقد بدا لي بعد أن أفقت من عمق المعنى الذي سكبه الرجل في روعي أنه قد حسم أمره وأن خطابي المبني على علم ووثوقية مصلحية متحققة قد انهار أمام القرار المسبق الذي اتخذه المريض متوسلا وعيه الخاص وخبراته وانحيازه لذلك. وهكذا هو الأمر حين نتأمل تلك الثلاثية التي تعالج المجتمعات وهي القانون والخطاب/ الرأي والتربية، فالقانون لا يلزم معه رضا الأفراد وقناعتهم ذلك أنه يملك سلطة الاستعلاء الواعي، أما الخطاب أو الرأي فيفترض به التواضع والخضوع للشراكة بين الملقي والمتلقي، أما التربية فإنها عملية مستقلة طويلة الأجل لها أدبياتها وقواعدها الخاصة بها... هذا التقسيم مهم لمن يتصدر لمعالجة المجتمع بكل صوره، ذلك أن الخلط على أشده حين لا يفرق المثقف بين مشكلات تعالج بالقانون وأخرى بالخطاب وثالثة بالتربية. وعند العودة للقصة أعلاه فإن فيها إشارة لكيفية التعاطي مع الواقع الصحي في البلد حين نعي أن العملية الطبية تحوي شراكة تلتقي فيها المثالية المهنية بالواقع وثقافته وخبراته وطريقة تفكيره ويكون المنتج هو ما نراه ماثلا أمامنا، هذا عندما يكون خطابا أو نصيحة يحضر عندها عنصر الاختيار، وهذا حال الطب إذ الشراكة سمة أصيلة فيه، أما عندما يكون قانونا فإن المستهدف يكون مقدم الخدمة لا المستفيد منها، لذا لا بد من التفريق بين الأمرين عندما نمارس نقدا بصورة ما. والشراكة بين صاحب الخطاب وبين جمهوره لا يكفي أن تكون شراكة في الآمال والمستقبل، بل يجب أن تكون شراكة في الواقع وهمومه وفي التوقيت ولنا فيما حصل في بعض دول الربيع العربي مثال، حين كان الخطاب السياسي متأخرا جدا لم يفد مع حشود حسمت أمرها واتخذت قرارها. وعند تأمل الخطاب الثقافي بشتى صوره الدينية والاجتماعية والفكرية نجده يعاني من هذه الإشكالية ، إشكالية تخلق ثنائية مزعجة حين يستعلي المثقف متكئا على الاستهانة بالمجموع ويغفل عناصر تكوين ذلك المجموع التى تجعله يحسم أمره ويتخذ قراراته لصناعة الوعي الخاص به فيصبح المثقف ويمسى يردد ويسمع رجع الصدى (أنا نبي ضيعه قومه). لاشك أن التنظير دائما أوسع من الواقع ولا تكمن المشكلة في فيضان وتدفق التنظير للمجتمع ،لأن ذلك ضامن لاستمرار الإبداع، لكن الخلل دوما في مفردات هذا التنظير وخلطه بين القضايا كما أسلفت. لو تأملنا خطاب الوحي على زمن الرسول عليه الصلاة والسلام لوجدناه يحتوي على ثلاثية (القانون والتعبير عنه بالأمر والخطاب الذي يعطي فرصة لإحداث شراكة عبر إعمال الفكر أو التدرج في خلق قانون ما أو عبر تحقيق الاختيار للقرار، والتربية التي لا يحدها عمر ولها أدبياتها الخاصة) هذا المزيج كان أحد أسباب تجليات الواقعية التي نهضت بأمة قد خلت. لقد اتكأت الواقعية الإسلامية على خلق الدافع الذي يعتمل في ضمائر الناس وهو (الإيمان)، وهذه قاعدة مطردة في تكوين البشر فيجب صناعة قناعات وولاءات في ضمائرهم للمبادئ والمثل التي نطالبهم بها قبل مطالبتهم بتنفيذ مقتضياتها وهذا لا يتم وهم مغيبون عن واقعهم لا يشاركون ولا يستأذنون وهم شهود لتكون النتيجة عزلة شعورية تدريجية تتخلق في ثناياها أفكار مختلفة ورؤى خاصة لا يشعر بها أحد إلا عند الأزمات لكنها ستكون غالبا في الاتجاه الخطأ بسب القطيعة التي أفقدت البوصلة توازنها. تتضارب مشاعر الإنسان وقد يفضل حالة على حالة، لكن الإنسان لا يتنازل عما يحب ويهوى ويألف إلا إذا وجد حبا جديدا لكنه أكبر، عندها على المثقف أن يقوم بخلق هذا الشعور الجديد أو يسأل نفسه كيف وصل الإنسان لتلك القناعات والمحبوبات عندها يعلم فقط أنه في الاتجاه الصحيح إن رام بناء الإنسان حقا.