يمثل العمل الطبي التطوعي الرافد الثالث لتقديم الخدمة الصحية بالإضافة للقطاع الحكومي والقطاع الخاص، لكننا نلحظ ضمورا في شخصية العمل الطبي التطوعي ناتجة عن سيطرة القطاعين الآخرين على المشهد برمته. تكمن الإشكالية في ثلاثة محاور تغيب ثقافة العمل الطبي التطوعي أو تضعف من حضوره، المحور الأول هو (تعالي) بعض المسؤولين وأصحاب القرار على هذه الثقافة تعويلا على الدعم الحكومي، والمحور الثاني ناتج عن الخلل في تحرير مفهوم العمل الطبي التطوعي وارتباطه بثقافة الأزمة والإنقاذ فقط أو أنه عمل إضافي يقوم به ممارس صحي في وقت فراغه، وهذا الخلل تجده لدى القائمين على العمل الخيري بصوره المختلفة، ويأتي المحور الثالث وهو نتاجهما لدى الثقافة العامة لأفراد المجتمع. بل إن الأطباء يغيب عنهم كثيرا هذا الأمر لذا تجد الطبيب -غالبا- ما يفكر في إحداث موازنة بين عمله الحكومي وعمله في القطاع الخاص دون المرور على فكرة التطوع مما أحدث سباقا محموما نحو الاتجاه المادي. من المهم الوعي بأن تقديم الخدمة الصحية يجب أن يخضع (لفكر) قائم على إستراتيجية واضحة تستهدف المشكلات الصحية وتستبقها، وهذا ما تحاول وزارة الصحة حاليا مقاربته، وعند الإطلاع على إستراتيجية وزارة الصحة (1431 – 1440) نجد فيها استهدافا واضحا لواقع البلد لكنها أشارت على استحياء لمؤسسات المجتمع المدني عند حديثها عن الشراكة مع المجتمع. فمثلا أشارت الإستراتيجية لفكرة شراء الخدمة من القطاع الخاص داخل البلد أو خارجه أو ما يعرف ب(outsourcing) وهذا جيد ومطلوب للتغلب المؤقت أو الدائم على صعوبات محددة، وهنا تأتي مؤسسات العمل التطوعي الطبي لتكون شريكة لهذا الأداء وبصورة فيها الكثير من السهولة في مبادرة تقديم الخدمة. سأضرب مثلا بمشكلة قائمة حاليا أعتبرها في عداد المسكوت عنها وأعرضها مختصرة هنا لأن في تفاصيلها دروسا مهمة يجب التقاطها مبكرا، وهي تتعلق بمعالجة المقيمين من فئة العمال وغيرهم، فلهؤلاء معاناة قائمة مع العلاج بأجر في المستشفيات الحكومية أو مع القطاع الخاص تتمثل في تخلي الكفيل عنهم وعدم التأمين عليهم مما يوقعهم حال المرض في معاناة إنسانية شديدة، وهنا مهما كان الخلل هل هو في نظام الكفالة أو في تطبيقه فإن المرض لا ينتظر حل هذا الإشكال إذا لو وجد قطاع ثالث يعلن عن نفسه بوضوح لأمكن لجوء هذه الفئة إليه لحل المشكلة، والطريف والمزعج في ذات الوقت أن من الوجهاء والأثرياء ممن يلجأ لهم هؤلاء فيكون تفاعلهم خطابا لمدير المستشفى يحوى كلمات مكتوبة شفاعة لمساعدتهم! يقدم العمل التطوعي المؤسسي في المجال الصحي إضافة مهمة للوعي إضافة لما يقدمه من خدمة، فهو يقرب المجتمع بأفراده ونخبته من الواقع الصحي ويجعل الناس أكثر استيعابا للمشكلات والمشاركة في حلها، فواحدة من مشكلاتنا مع الصحة، هذا البعد عن الواقع الذي لا يتعامل معه الفرد إلا حال المرض تحت تأثير مزاج سيء ونفسية مرتبكة، كما أن لدينا تعليماً لا يخدم جيداً في هذا الاتجاه، فضلا عن إعلام يزيد الأمر احتقانا! أيضا فإن العمل المؤسسي يمكنه استيعاب جزء من الكوادر الصحية الوطنية العاطلة عن العمل عبر التعاقد معها لأداء مهام إدارية أو فنية تخدم المجال التطوعي. كما أن العمل الطبي التطوعي المؤسسي يصلح أن يكون جهة رقابية وتطويرية غير مباشرة على الأداء الحكومي عند دراسته، فهو يسدد عثرات الأداء الحكومي ويسد ثغرات الأنظمة لحين إعادة تشريعها. باستعراض واقعنا، نجد أن العمل الطبي التطوعي يكاد ينحصر في فكرة الجمعيات التطوعية وهذه الجمعيات تقوم بدور مهم ولا شك سواء المتخصصة كما في حالات الكلى والسرطان أو العامة منها لكن في نطاق جغرافي معين، وحيث إن هذا غير كاف فإن المطلوب في نظري هو إشاعة ثقافة العمل الطبي التطوعي في جميع الجمعيات الخيرية القائمة عبر استحداث مسارات للخدمة الصحية في كل جمعية توازي ما هو حاصل بالفعل في تلك الجمعيات، هذه الطريقة تضمن نوعا من الانتشار للفكرة، يوازي ذلك وفي نفس الاتجاه قيام القطاع الخاص بمؤازرة الفكرة عن طريق تحديد أيام شهرية أو نصف شهرية أو كيفما يكون مناسباً يقدم فيها شيئا من خدماته مجانا للفئات المحتاجة أو ذات الظروف الخاصة، ويكون كل هذا معلنا وتحت إشراف الجهات الرسمية ذات العلاقة، يأتي بعدها الانتقال للأداء المؤسسي المتخصص الذي يراعي كما قلت في مقال سابق هوية كل منطقة من حيث طبيعة مشكلاتها الصحية واحتياجها، لتنتهي الصورة بوجود أوقاف خاصة بدعم الصحة في كل منطقة أو بوجود مراكز متخصصة تقدم منظومة متكاملة من العمل الطبي المتخصص لكن تحت مظلة خيرية أو عبر تعاقدات تشتري الخدمة بشتى صورها.الأمر يمكن تبسيطه بالمثال التالي.. عندما يحتاج مريض ما خدمة طبية كجهاز مساعد أو غير ذلك ولا يمكن توفيره آنيا من القطاع الحكومي بسبب بيروقراطية تؤخر ذلك كما أنه لا يستطيع شراءه من القطاع الخاص لضيق ذات اليد فإن قطاعا ثالثا يكون حاضرا لتوفير احتياج المريض بما يحفظ كرامته دون الحاجة للمناحات الصحفية والولولات الإعلامية المسيئة للمجتمع والوطن... وللمقالات صلة.