في مجتمعنا يتنامى مفهوم (كَلٌّ يَدَّعي وَصْلاً بلَيلَى)، وحقيقة أن (ليلى لا تُقرُّ لهم بذاكا)، فهي مظلومة بحدوث ذاك الوصل المزعوم، وهي حتى لا تعرف مَن هذا العاشق، الذي يمطرها بتلك الأشعار الرنانة، ومن يغزلُ من حبها عقود لؤلؤ تملأ صدر السماء. وليلى تتسمعُ لما يقولونه عنها، وتشك في نفسها، فهل كانت ساعتها غافية تسير في منامها، أو لعوب تغازل هذا الشاعر، وتبوح له بعشقها، وترتمي في أحضان ذاك المتصابي؟ هل كانت فعلاً تنسى من تسامرت معه بالساعات، ومن فضفضت له بمكنون نفسها، ثم نسيت كل ذلك؟! أعان الله ليلى، فمرة تهز رأسها موافقة على مضض بصحة بعض ما يحكونه، ومرة تتوه ولا تنطق، ومرة تغضب من غباء التفاصيل، ولكنها لا تُريد أن ترُد، خصوصاً إذا كان العاشق الواهم لم يتعدَّ حدود اللباقة في أشعاره، ولم يُلطخ جدران كرامتها. ويتكاثر العشاق، بتعداد سنين عمر ليلى، وتهرم، وتصاب بالزهايمر، فلا تعود فعلاً تتذكر التفاصيل. ويأتي على ليلى عزرائيل، ويختطفها من بين أحبتها، دون أن تنجلي لها الحقيقة، ودون أن نتمكن نحن من إثباتها أو نفيها. وبعد الموت تتوارد بقايا الأسرار، وتتعاظم تفاصيل الروايات، وتزداد فيها الخصوصية، فيعتصر كل عاشق جريح ذاكرته، ويفرد أوراقه، ويسكب دمع أقلامه، وينشر الصور المفبركة، ليحكي وليثبت كما لم يتجرأ من قبل، ويبني لنا قصوراً من الوهم، وجسوراً من خطوات التلاقي، والعشق، قصصاً يشيب لها الولدان. أقول ذلك بعد أن جلست في أحد المجالس، فكان بعض الجالسين من محبي (الترزُّز)، يحكون عن لقاءاتهم الحميمية الخاصة بكبار مسؤولي الدولة، ويشرح كل منهم بتفاصيل تدعو (للنرفزة)، كيف كان يجالس مع المسؤول الفلاني، وكيف تبسط معه وضحك ومزح، وأغلق عليهما باب (المُختصر)، وحكى له بما يجول بخاطره، وفضفض له عن طموحاته وهمومه، وكيف كان هو مُطلعاً على أدق تفاصيل حياة المسؤول. ويأتي آخر، ويذكر مسؤولاً ثانياً، ويحكي لنا عن مكالمات خاصة تمت بينهما، وكيف كاد هو أن يملُ من طولها وتكرارها، والمسؤول الكبير هو من يُمطمطُ في الكلام و(يتلزق). ويأتي من يشرح عن الهبة العظيمة، التي وهبه إياها المسؤول الفلاني، وكيف أنه كان قد رفضها حتى لا يشعر بأنه مختلف عن بقية الشعب! ويحكي آخر كيف كان المسؤول يأخذ رأيه في أدق القرارات قبل صدورها! وأشعر لحظتها بأني قزماً منكمشاً، لم أجرب مثل تلك الحكايات، ولم يسبق أن دُللت بمثل ذلك الدلال، وإن حدث ورأيت مسؤولاً كبيراً في حفلة أو اجتماع، فأكون من ضمن عامة الناس، ممن يصعُب عليهم أن يتبينوا ما يقوله المسؤول دون مكبر للصوت! الكذب بادعاء الوصل بالكبار، ساد من حولنا، ومن كثرته، فإنك تشعر أنك مُقصر في علاقاتك مع المسؤولين، وأن قدرتك على التسلق منعدمة بأطرافك المثقلة بقلة الطموح. وقد حاولت عدة مرات أن أغير في مسار الحديث (الفاقع) للمرارة، الذي تغلُبُ عليه صفات النرجسية وحُب الظهور، بشكل مَرَضي، يجعلك ترثي لحالهم، أو على حالك الناقصة في نظرهم. وفي النهاية لم أجد بداً من أن أذكرهم بملك مدعي الوصل بليلى، الكاتب الكبير (حسنين هيكل)، الذي كان يشدنا للسباحة معه في بحور كتاباته السحرية، بتفاصيل رذاذ الأمواج الرقراقة المتسارعة، ليصحبنا معه لمدن السحر، ويشعرنا بأنه محور للكون، وأن سياسة الدول العربية ليست إلا منتجاً من صنع يمينه، وأنه لو لم يكُن، لما كانت بعض الحقب السياسية، ولا كثير من الحكومات والزعامات. وأنا هنا أقر باحترامي للأستاذ هيكل ككاتب ومفكر، وأقدر عقليته الفذة، وذاكرته الفوتوجرافية، التي لا تُبقي ولا تذر، ولكني عجزت عن التدليل بمثال أوضح منه في حينها. ادعاء الوصل بليلى أمر متفشٍّ بيننا، ويدعو للشفقة على أصحابه، ممن يتباكون على الشاشات، وممن يكتبون لنا تاريخهم المشبوه في الوصل، وعلاقاتهم الحميمية بالكبار، وتأكيد ضلوعهم في صنع الأحداث، وسماحهم لنزواتهم النرجسية بتزوير حقائق التاريخ، الذي شبع تزويراً، ولم يعد يحتاج لزيادة كذب. وليلى ستظل متمنعة عن جحافل المدعين، حتى ولو شقوا لنا عن قلوبهم، وأبدعوا في تصوير كذبهم، ببساطة، لأنه يظل كذباً في عين المراقب الحصيف. كفانا الله وإياكم هذر عشاق ليلى الواهمين بوصالها.