أحياناً.. يكون من الصعب جداً، بل من المستحيل على الإنسان أن يعيش نفس الآلام مرتين. خصوصاً وأنها آلام يعرفها جيداً. يعرفها بممراتها ومضايقها. ويتذكر جيداً أنه لبث سنين طويلة حبيساً في بيت أشباح يبحث عن مخرج منه فلم يجد. لكنه خرج ولا يتذكر كيف خرج. وربما أن ذلك الخروج كان بمحض الصدفة. لذا هو لا يريد أن يخوض التجربة مرة أخرى لهذا السبب تحديداً: أنه قد نسي كيف خرج. فرجينيا وولف روائية بريطانية مشهورة عاشت حياة شديدة الصعوبة في طفولتها وشبابها، يُتم وبؤس وأحداث شديدة الوقع والأثر. وظلت تعاني من أمراض نفسية وجسدية وأصوات تسمعها في رأسها. لكنها تعافت بعض الشيء عندما تزوجت من ليونارد وولف. ذلك الزوج الحنون، الذي تخلى عن مستقبله الوظيفي في عالم السياسة، لينتقل مع زوجته للريف الإنجليزي (سوسيكس الشرقية) حيث الهدوء ومجاورة نهر (آوس) وحيث أنشأ دار نشر يطبع كتب زوجته وكتبه وغيرها من الكتب. إلا أن الروائية لم تهنأ طويلاً في حياة الريف الهادئة وتكرار الأحداث اليومية. فرغبت في أن تعود للندن حيث صخب العاصمة. ذلك القرار لم يكن قراراً صائباً. فقد كانا في لندن حين قامت الحرب العالمية الثانية وحين اندلعت الغارات الجوية الشهيرة للطيران النازي على بريطانيا. تلك الغارات التي استمرت من السابع من سبتمبر 1940 حتى العاشر من مايو 1941، التي وصفها أحد المفكرين البريطانيين الذين عايشوها بقوله: «إن تلك الطائرات التي نسمع أزيزها وهذه القنابل التي تسقط على رؤوسنا، لهي التحقق الموضوعي لما في هذا الكتاب». وكان يمسك بكتاب «ظاهريات الروح» لفيلسوف الألمان الأول هيجل. هذه الكلمة تشير لمسألة كبيرة جداً، هي انتقال الفكر من كونه ذاتياً، مجرد (notion) فكرة، لكنها انتقلت من الذاتية للموضوعية، أي انتقلت لمرحلة التحقق في العالم الموضوعي المحسوس. هذا موضوع كبير سأرجئ الكلام عنه. لنعد للمرور بمحطة الآلام التي لا تطاق للمرة الثانية، وكيف واجهتها فرجينيا. دمار بيتها في ذلك القصف قد أعاد هذه الكاتبة الرقيقة لحالة الاكتئاب القديمة، وأعاد الأمراض المضنية بكل عنفها وشراستها، وأعاد الزوج المسكين لمجرد ممرّض لا يكاد ينام حتى يستيقظ على صوت صراخ الوجع. إلا أن فرجينيا قد اختارت حلاً آخر هذه المرة ولم تستطِع أن تمر بتلك المحطة المتعبة مرتين، ولا أن تكون مسؤولة عن عذاب من تحب. لقد تركت رسالة على مكتب زوجها، ثم خرجت ومشت في النهر المجاور لبيتها حتى خرجت روحها غرقاً في ذلك النهر. الانتحار هروب محرّم وليس فعل الشجعان كما زعم المجنون «نيتشه». خصوصاً وأن المنتحر لا يعلم ماذا كان يمكن أن يحدث من مفاجآت سعيدة بعد تلك اللحظة التي قرر فيها الخروج. إلا أنني أجد في نفسي رقة شديدة وأنا أعود إلى مكتب ذلك الزوج وأمزق الظرف وأقرأ ما في تلك الرسالة. إنها أعظم قصيدة حب قرأتها. إنها رسالة اعتذار يكتبها المحبوب لمحبّه عن اقترافه عملاً سيقود لشيء من الألم لا تعقبه سعادة، وإنما راحة ممتدة.. أو هكذا ظنّت. العزيز ليونارد: أشعر أنني سأصاب بالجنون من جديد. أشعر أننا لا يمكن أن نعود لكي نعيش تلك الأوقات المرعبة. أشعر أنني لن أشفى هذه المرة. لقد بدأت أسمع أصواتاً ولم أعد قادرة على التركيز. لذلك سوف أفعل ما يبدو أنه أفضل ما يمكن فعله. لقد أعطيتني أعظم قدر ممكن من السعادة. لقد كنت كل شيء يمكن أن يكونه إنسان، وبشتى الوسائل. لا أعتقد أن اثنين من البشر يمكن أن يصلا إلى سعادة أكبر مما وصلنا إليه، حتى أتى هذا المرض المريع. لم أعد قادرة على المقاومة أكثر. أنا أعلم أنني أدمر حياتك، وأنك من دوني ستستطيع أن تعمل. كما ترى، أنا لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بصورة صحيحة. لا أستطيع حتى أن أقرأها. ما أريد أن أقوله هو أنني مدينة لك بكل السعادة التي عشتها في حياتي. لقد كنت صبوراً معي لدرجة الكمال، وكنت طيباً بصورة تفوق الخيال. ما أود أن أقوله، يعرفه الجميع، وهو أنه لو كان بإمكان أحد أن ينقذ حياتي، لكان أنت. لقد فقدت كل شيء.. سوى ثقتي بطيبتك. أنا لم أعد قادرة على تدمير حياتك أكثر من هذا. أنا لا أعتقد أن اثنين من البشر يمكنهما أن يكونا أكثر سعادة مما كنا. (فرجينيا).