تؤنسني التعليقات من أصدقائي (ملائكة ثبج البحر الأخضر الإلكتروني) في جريدة «الشرق» السعودية في عزلتي في جبال عسير الشاهقات، حيث الغمام يظلك، والضباب يلفك، والمطر يغسلك. أفتقدهم حين لا أرى تعليقات (أبوالفاضل القونوي يذكرني اسمه بملوك بني عثمان) و(دعشوش) المجهول، و(جمانة) السورية، و(المكي المهراوي) و(علي) بدون كنية، وآخرين من الأفاضل الأماجد محبي الثقافة. ممن تؤرقهم حمى الفكر، ويهمهم حال الأمة. فرحتهم كبيرة بفكرة جديدة، ومتعتهم بقنص معلومة مفيدة. جنتهم المعرفة، وسباحتهم إلى المجهول في بحار العلم بدون خوف الغرق. تسليني حروبهم الفكرية -إن صح التعبير وتمنيت لو اجتمعت بهم؛ فتحدثنا طويلاً طويلاً بدون ملل ومخافة وسآمة. هؤلاء هم الأصدقاء الفعليون، والإخوة الأبرار، الذين لم يضمهم رحم وتضمهم عائلة. إن أحسنت أثنوا، وإن أخطأت صوّبوا وقوّموا، وإن انحرفت انتقدوا بحب وحرص دون تشهير، وقبل ذلك بدقة ومراجعة فلعل الخطأ منهم قبل الناطق والكاتب، وهي أعلى مراتب النبل. من الأصدقاء مَن تعرفهم بالصوت والصورة والحركة، كما قالت مدرسة (البرمجة العصبية اللغوية Neuro – Linguistic – Program) وهنا نتذكر القرآن (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) فما هو أخفى من السر؟ ذلك أن المدرسة المذكورة قالت إن الصوت ينقل حوالي الثلث مما يجول في النفس، فإذا أضيفت الكتابة والصورة ترتفع النسبة أكثر، ولا تتجاوز بأي حال %67 مع الحضور الكامل، كما أتذكر ذلك من مقابلتي مع (كفتارو) مفتي العصر البعثي البائد؛ فقد قرأت في عينيه وحركات يديه ما يذكرني بالقرآن (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ). من أجمل ما كتب (أبوالفضل القونوي) في تعليقه عبارة تذكرني بمقدمة ابن خلدون كيف كان يختم حديثه، كذلك جرى حديث القونوي حين انتهى من تعليقه بعبارة (وقد أكون أنا المخطئ). إنه يذكرني أيضاً بالإمام (الشافعي) في حواراته: (أنا على حق ويحتمل الخطأ، ومناظري مخطِئ وقد يكون محقاً). لقد ردد (فولتير) الفرنساوي نفس العبارة بنحو مختلف: (قد أختلف معك، ولكني مستعد للموت في سبيل الدفاع عن حقك في التعبير عن رأيك). القرآن يعلمنا: ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ). في هذا النسق يقول الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) على نحو مختلف حين سئل: هل تموت من أجل رأيك؟ قال: لا.. لأنني قد أكون مخطئاً فأموت مع الخطأ. وفي هذا أيضاً حين أعدم (سقراط) كانت تقول زوجته كزانتبي: (ولكنك بريء)! يبتسم سقراط ويقول كم مرة يجب أن تتعلمي يا كزانتبي؟ وهل يسرك أن أعدم وأنا مدان!