الإنسان بطبيعته البشرية وبفطرته التي جبله الله عليها، هو كائن دائما ما يتخذ الصيغ الدفاعية لا الهجومية في تعاملاته مع كل الظواهر الكبرى في حياته. بمعنى أنه مخلوق غير مقدام وإنما هو مخلوق متحفّظ ومتوجّس يعيش في حالة خوف دائم من كل الأشياء التي يجهلها (المستقبل مثلا هو شيء يجهله الإنسان ولذلك يعيش في حالة خوف وتوجس دائمة منه بالشكل الذي يجعله يرهن حاضره ويومه الذي يعيشه ولا يملك سواه في التفكير والتخطيط والخوف من هذا القادم المجهول فقط لأنه يجهله ويخاف على مصيره فيه) أو تلك التي لا يستطيع معرفة مضامينها بالشكل الذي يحرضه على التعاطي معها وهو في حالة أمن كامل. بهذه الكيفية فالإنسان وبهذه الفطرة التي وجد نفسه عليها فإنه يخاف من التغيير أيا كان هذا التغيير أو مدى إيجابية أو سلبية انعكاساته على حياته وبغض النظر عن حجم هذا التغيير أيضا، سواء كان بتغيير السكن من مدينة إلى مدينة أو بلد آخر جديد لا يعرف تفاصيل المعيشة فيه، أو حتى كان تغييرا في مجال العمل بالانتقال من مؤسسة إلى مؤسسة أخرى أو مهنة أخرى. بذات القدر الذي يخاف فيه الإنسان الفرد من التغيير على المستوى الشخصي، فإن المجتمعات البشرية تملك ذات الطبيعة من الخوف والتوجس من التغير إلى شكل أو نظام اجتماعي مختلف جديد، إلى درجة قد تتحول فيها معارضة التغيير إلى نوع من الصراع والحرب الاجتماعية المفتوحة والتي يتبناها فريق مناهض مقابل فريق آخر مؤيد. أي لا الفرد ولا المجتمع يمكن أن يغيروا من طرائق معيشته وتفكيره وتعاطيه مع الحياة إلا إن أصبح تحت تأثير عوامل خارج ذاته تدفعه دفعا وبشكل قصري لأن يتغير. ونتيجة التوجس والريبة وحالة الشك والخوف الدائم من التغيير، فإن المجتمعات البشرية كانت وعلى مدى تاريخها في حالة صراع دائم معه، في الداخل ما بين المؤسسات والنظم التي تصنعها لخلق طرائق عيش تتناسب مع طبيعتها والظروف المحيطة بها، وفي الخارج مع المجتمعات والمنظومات الأخرى التي قد تعيش بطرق ونظم ومؤسسات وأفكار مختلفة عنها. هذه الحالة من الرفض وبكل أشكال ومظاهر الصراع التي تفرزه داخل المنظومات البشرية حاول علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا إيجاد تأويل علمي لها ومن ثم اختزال هذا التأويل تحت مفهوم واحد قادر على تسليط الرؤية عليه وبشكل مباشر، ولذلك اختزل هؤلاء العلماء والمشغولون بالعلوم الإنسانية هذه الحالة من الرفض والخوف من التغيير بمصطلح (تجنب عدم التأكيد) (uncertainty avoidance ) الذي يمكن القول عنه إنه يعني مدى شعور الناس بالتهديد من الأشياء والمواقف والأفكار وطرائق المعيشة غير الواضحة ومحددة المعالم بالنسبة لهم، وبالتالي اضطرارهم لخلق حالة دفاعية قوية مناهضة لها وذلك من خلال اعتناقهم لمعتقدات وتكوينهم لنظم ومفاهيم وقيم اجتماعية قد تصل إلى درجة قيامهم بتشكيل مؤسسات تتخذ أطراً فكرية وعقائدية واجتماعية لا معنى حقيقياً يكمن بخفاء خلف تشكيلها سوى تجنب وضعهم في موقف التعايش مع هذه الأشياء والأفكار والنظم الجديدة وغير الواضحة المعالم لهم. إذا نحن بالفعل أمام فطرة إنسانية عامة لا تتقبل التغيير ولا تسعى له سواء في المجتمعات التي تصف نفسها بالمتحضرة والمتطورة أو تلك التي توصف بالتقليدية والمتخلفة والبسيطة، بل على العكس فكافة المجتمعات وبكافة حالتها تحاربه وبكافة الطرق الواضحة والأخرى الخفية التي تتخذ صيغ مزورة ومزيفة لخداع هذا العدو الأزلي، إلا أنه يبقى ورغم كل هذا الخوف على المستويين الفردي الشخصي أو الاجتماعي المنظم فإن التغيير هو حقيقة حياتية خالدة بالشكل الذي يجعلنا قادرين على تصنيفها بأنها إحدى الظواهر الطبيعية التي لا يمكن الاختلاف على وجودها أبدا ولا حتى حتميتها، وإنما يكمن الاختلاف فقط في نسبتها وفي طرائق تفسيرها ورصدها. ولهذا سأعيد ما سبق وقلته في حديثي السابق بأن التغيير هو حقيقية حياتية لا يمكن إنكارها ولا يمكن حتى التصدي لها، فلا أحد يستطيع منع التغيير الاجتماعي وإطّراده أياً كانت الوسائل والطرائق الظاهرة والخفية التي قد يستخدمها مجتمع ما أو فئة ما ذات مصلحة شخصية من إيقاف هذا التغيير، بهذه الكيفية برأيي أن الأفضل لنا كمجتمع متلقٍ للحضارة لا صانع لها، أن نحاول استيعاب الأشياء والأفكار والأنظمة الحياتية قبل أن ندخل في حالة تماهٍ فعليٍّ معها، بغض النظر إن كان هذا التماهي هو قبول مفرط لها أو حرب مفرطة أيضا عليها. ومن أهم هذه الحقائق العلمية الحديثة برأيي هي التغيّر الاجتماعي الذي سأحاول في الأطروحات القادمة رصد مفاهيمه وأهم النظريات والمدارس الاجتماعية والأنثروبولوجية التي تناولته.