شكري حسن السنان – أستاذ الهندسة المدنية المشارك ، رئيس لجنة السلامة المرورية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن شاع مؤخراً مقطع لفيلم أنتجته أرامكو السعودية يحمل إحصاءات ومقارنات مخيفة لوضع السلامة المرورية في المملكة. واختتم المقطع بالتساؤل: من هو المسؤول ليتحسَّن الوضع المروري؟ ولي رجعة إلى هذا التساؤل، حيث إن هذا هو صلب الموضوع. لا يختلف اثنان حول فداحة الوضع المروري في المملكة، وأن معدل الحوادث يفوق مثيلاته على مستوى العالم. وأزيد بأن سلوكيات معظم السائقين في المملكة ليست كسلوكيات من يدرك خطر القيادة على النفس والغير. من متابعاتي لهذا الملف على ما يزيد على ربع قرن، بحكمي متخصصاً في مجال المرور وسلامته، وكأن الوضع يراوح مكانه، بل إن الحوادث والوفيات تزداد سنة بعد أخرى. وقد يقول قائل: هذه نتيجة طبيعية بسبب تزايد عدد السيارات والسائقين. وحتى إذا سلّمنا بالأمر بأن هناك تزايداً في عدد السيارات والسائقين، يلِّح سؤال: ماذا عملنا كمتخذي قرار لمواجهة هذا الأمر. لا أحد ينكر أن هناك جهوداً على المستوى الرسمي والمجتمعي لمواجهة هذه المشكلة، لكن المحصلة هي تزايد خسارة الأرواح وحدوث الإعاقات وخسارة الممتلكات. مايقارب عشرين وفاة يومياً، حسب الإحصاءات الرسمية، أشبه ما يحدث في ساحة حرب. يبدو أن هذه الجهود تذهب هباءً، والسبب بكل بساطة كما يتفق البعض هو اعتماد أنصاف الحلول لمواجهة هذه المشكلة. وهنا يتوجب الإيضاح. تجارب العالم في هذا المجال خير إيضاح. الشأن المروري ليس فقط وضع شاخصة مرورية أو سفلتة طريق، بل أصبح علماً واسعاً. فهو هندسي ورقابي وتثقيفي. فمن الناحية الهندسية يبدأ من مرحلة التخطيط على الورق، إلى التنفيذ، ثم مرحلة التشغيل. والمرحلة الأخيرة هي أهم مرحلة. ومن الناحية الرقابية يبدأ فرض القانون ومعاقبة مخالفيه واستخدام التقنيات الحديثة للمتابعة. وأخيراً، من الناحية التثقيفية، هو ضمان أن من يمسك المقود هو شخص واعٍ لأخطار القيادة، وأيضاً واعٍ للقيادة الحضارية والوقائية والسليمة. من المثير للانتباه هو استحالة أن يكون هناك وضع جيد أو على الأقل يكون مقبولاً مرورياً، إن لم يكتمل هذا الثالوث: الهندسة والرقابة والتثقيف، وهذا بحد ذاته يشكل المنظومة المرورية. ولنضرب مثالاً على سبيل الإيضاح. عندما يقود الشخص سيارته على الطريق السريع المكون من ثلاثة مسارات وكتفين للطوارئ على اليمين واليسار، تراه قد تحوَّل إلى مسارين أو إلى خمسة مسارات حسب الكثافة المرورية! فحين تكون الكثافة خفيفة ترى تركز السيارات على الكتف الأيسر والمسار المجاور، الجميع مسرع ولا أحد يريد أن يكون في الخلف فترى «التوميض» وعدم ترك مسافة، الخ من السلوكيات السلبية. وحين تكون الكثافة المرورية عالية ترى المتجاوزين يستخدمون الكتفين الأيمن والأيسر بالإضافة إلى المسارات الثلاثة. والكل يلاحظ السرعة العالية للسيارات التي تستخدم الكتف الأيسر، فترى «التوميض» وعدم ترك مسافة، الخ من السلوكيات السلبية أيضاً، مما يعرض هؤلاء السائقين أنفسهم وغيرهم للخطر. هنا دعونا نحلِّل ونوضِّح ما جاء في هذا المثال. هندسياً: توصي المواصفات بعدم جعل الكتف الأيسر عريضاً حتى لا يستخدم كمسار اعتيادي – كالذي يحصل، بل يكتفى بمترٍ واحد. وهناك حلول هندسية لإصلاح هذا الخلل إذا ماكان الكتف عريضاً جداً. فيجب هندسياً وضع شاخصة مضمونها يكون»ممنوع السير على كتف الشارع»، أو توضع عوائق -حسب المواصفات العالمية لتكون سليمة – تمنع السير. وبهذا تتضح للسائق الرؤية ويكون قانوناً. رقابياً: ولكون الحل الهندسي المذكور أعلاه غير موجود، فقد انفلت الأمر وأصبح سلوكاً معتاداً للكثير من السائقين، حتى استحال على الجهات الرقابية ضبطه. بل إن السائقين يقودون على الكتف حتى مع وجود سيارات دوريات أمن الطرق وبلا خوف. والأمر الآخر الذي خرج عن السيطرة هو أن عملية الانتقال لكتف الشارع بحد ذاتها تُعد مخالفة لأنها تتضمن خطاً أصفر و متصلاً وهو حدود المسار الأيسر أو الأيمن، حسب ماهو معروف. تثقيفياً: هنا يأتي ضرورة أن يفهم السائق أن ما يقوم به هو خطر عليه وعلى الغير، وهذا غير ما يحصل. كما يجب التوصيل للسائق بأن ما يقوم به يُعد مخالفة يعاقب عليها. وهذا بالطبع دور مدارس القيادة وحملات التوعية. هنا ومن هذا المثال يتضح تقاطع المسؤوليات بين المهندس ورجل الأمن ومدارس القيادة. كيف لهذه المنظومة أن تعمل بفاعلية ناجحة؟ لأنها لو عملت بفاعلية ناجحة لضمنا، بإذن الله، تجنب الحوادث التي تحدث من جراء هذا النوع من السلوكيات. وقس على ذلك للسلوكيات الأخرى. الاستنتاج الأهم هنا هو متى ما توفرت البيئة الهندسية الصح، تسهلت مهمات الجهات الرقابية والتثقيفية. ورؤية أخرى تطرح هنا هي»التشغيل المروري». ويقصد هنا كيف لنا أن نضمن انسياب الحركة المرورية في جميع الطرق والتقاطعات، وكيف نعالج المناطق الخطرة والأخطاء الهندسية والتخطيطية التي فاتت على المخطط أو استحدثت. ويقصد أيضاً كيف نسخر التكنولوجيا الحديثة في التشغيل والضبط المروري. وكما يتضح فإن هذا الأمر هندسي بحت، وهو في المملكة مناط بالجهات الرقابية، أي المرور وأمن الطرق والتي تفتقر إلى الكادر الهندسي المؤهل لذلك، والذي في الأساس ليس من مهماتها. يتضح من السياق السابق كيف أن الأمر معقد جداً ويحتاج إلى تقويم. والحل، من واقع التجارب العالمية وواقع المملكة الإداري، يكمن في أن تناط مهمة السلامة المرورية والتشغيل المروري إلى وكالة بوزارة النقل لها فروعها في جميع مناطق المملكة لتغطي جميع شوارع وطرق المملكة، داخل وخارج المدن. بمعنى أن يعاد تعريف مهمات وزارة الشؤون البلدية والقروية، ومهمات وزارة النقل. واختم ما ابتدأت به: من هو المسؤول ليتحسن الوضع المروري؟ ولعل الجواب هو متخذو القرار، وليس السائق، فكثير من الأحيان يكون السائق ضحية لأخطاء مركبة – إما منفردة أم مجتمعة – في التصميم، أو التنفيذ، أو التشغيل، أو الرقابة، أوالتثقيف، !