تتطور الممارسات الإقصائية وتتبدى بأشكال وتطبيقات متنوعة وبصور مختلفة لم تسلم أغلب المجتمعات الإنسانية منها؛ ويأتي في مقدمتها وأشدها إيلاماً «الإقصاء الاجتماعي»؛ فالإنسان منذ ولادته لا يحمل أفكاراً أو أيديولوجيات ينطلق منها، بل تربيته وتعليمه هما اللذان يحددان مساره في الحياة كيف يكون؟ وإلى أين يتجه؟ وكيف يمكن رصد الممارسات الإقصائية على أكثر من صعيد؟ وأنه يتركز في الحياة العملية والعامة بشكل أكبر وأكثر تأثيراً. وهنا يمكن القول أن مما يؤثر على الإنسان أولاً التربية داخل المنزل؛ إذ إن للوالدين أثراً كبيراً في تنشئة الطفل؛ سواء بإتاحة الفرصة له بإبداء الرأي أو من خلال قمعه وزجره وإلزامه الصمت دائماً، وحرمانه حقه الطبيعي في إبداء آرائه وهذا نوع من الممارسات الإقصائية التي تُمارس على النشء داخل المنزل وهو صغير بسبب استبداد ولي الأمر وجهله بطريقة تربية أولاده التربية السليمة والصحيحة، فلا يسمح لأحد من أولاده أن يتحدث معه أو أن يعرض عليه فكرة أو حتى مشورة أو أي وجهة نظر ولو كانت تصب في مصلحته؛ مما يسبب غياب الحوار داخل المنزل ومن ثَمّ تكون ممارسة الإقصاء على الأولاد داخل المنزل دائمة وبشكل مستمر. وقد تلاحق النشء هذه الممارسات في المدرسة من قبل بعض المعلمين؛ فيستمر مسلسل القمع في المدرسة فلا يُسمح في بعض المدارس للتلاميذ بإبداء آرائهم، أو طرح أفكارهم أو الإفصاح عن إبداعاتهم أو حتى معاناتهم عبر الحوارات الهادئة البنّاءة؛ لأن آفة هذه الممارسة تكون لدى بعض المنتسبين للوسط التعليمي الذين يظنون أن العملية التعليمية تخولهم وتعطيهم الحق بأن يكونوا هم المعبرين عنها منفردين دون السماح لأي أحد بالمشاركة، أو محاولة سماع وجهات النظر من قبل التلاميذ، ويتم بذلك إطفاء الحماسة في نفوس كثير من التلاميذ بسبب تلك الممارسات الإقصائية. مع العلم أن الأنظمة التعليمية الحديثة أصبحت الآن تعتمد على حجم مشاركات الطلاب ومساهماتهم في إثراء المسيرة التعليمية، من خلال طرح أفكارهم ووجهات نظرهم. وقد تمتد الحالة الإقصائية من المدرسة إلى الجامعة وقد لا يجد الطلاب والطالبات مفراً من مواجهة بعض الحالات الإقصائية الشديدة من بعض أساتذة الجامعات، الذين لا يسمحون لهم بالتحاور معهم أو حتى فتح باب النقاش في موضوعات قد تصب في العملية التعليمية أو في خدمة الطالب نفسه، فبعض من أساتذة الجامعات يرى أن التحدث والتحاور مع الطلاب وفتح المجال للمناقشة معهم إنقاص في شخصيته وضعف في هيبته أمام طلابه، وهو لا يعلم أن هذه الأفكار القديمة قد ولّت وانتهت نهائياً؛ لأننا نعيش الآن في عصر الانفتاح والحوار وتقبل الرأي والرأي الآخر. أما الممارسات الإقصائية التي نشاهدها وتشكل الحيز الأكبر فهي في مجال الحياة العملية، ففي المؤسسات والقطاعات التنموية والخدمية والإدارية العامة منها أو الخاصة هناك الإقصاء بين المسؤول والموظف، فكم من مسؤول تجاهل أفكاراً وآراءً نيرة وهادفة! بسبب تعسفه وتمسكه برأيه، وعدم قبوله بتعدد الآراء والأفكار المخالفة لرأيه وتفكيره، وعدم اعترافه بالحوار والنقاش مع موظفيه؛ إذ يصبح الموظفون عبارة عن منفذين لأوامره، وبذلك يقل الإبداع والتطوير لديهم؛ لأن فهمه للعملية الإدارية ولمسؤولياته أنه هو الذي يأمر والآخر ملزم بأن يطيع دون تحاور أو نقاش أو حتى إبداء وجهة نظر، مما رسخ هذه النظرة في ذهنية أغلب المسؤولين وتبنوها منهجاً إدارياً لهم لا يحيدون عنها، ومن ثَمّ يطبقونها على موظفيهم فيما بعد. هذه الممارسات الإقصائية الخاطئة التي تُمارس على أولادنا منذ صغرهم في منازلهم ومدارسهم وجامعاتهم وعملهم، قد يكون ضررها قوياً ومؤثراً على نفوسهم ومن ثَمّ يتخذونها منهجاً وسلوكاً يمارسونه على من حولهم، وتصبح الحالة الإقصائية ظاهرة وحالة متوارثة من شخص إلى آخر. وفي المقابل لتلك الصور السلبية التي تمارس على البعض إلا أن هناك بعض الفئات أو المجتمعات المتحضرة التي تعطي الابن حرية الرأي والمناقشة فتصنع منه محاوراً ناجحاً يستطيع أن يعبر عن أفكاره ومواهبه ويستوعب جميع الأفكار الأخرى، ويقبل الحوار والنقاش واختلاف وجهات النظر بصدرٍ رحبٍ ومن دون تعصبٍ أو استبدادٍ بالرأي أو محاولة إقصاءٍ للآخر. وختاماً لابد من معالجة هذه الظاهرة الخطيرة واجتثاثها من جذورها عن مجتمعنا عبر نشر ثقافة الحوار ومبادئه في المنزل والمدرسة، وتكثيف الدورات التدريبية المفيدة في هذا الشأن، كذلك لابد من الدور التكاملي للإعلام بجميع أقسامه المشاهد منه والمسموع والمقروء في محاربة هذه الظاهرة والقضاء عليها عبر بث برامج وإعلانات تُعالج فيها هذه الظاهرة، وعلى المثقفين والمفكرين تسخير أقلامهم لما هو مفيد في معالجة الإقصاء وتوضيح مخاطره على الفرد والمجتمع، حتى نتمكن من القضاء على هذه الظاهرة الخطرة نهائياً؛ لأن بقاء هذه الممارسات الخاطئة في مجتمعنا قد يقضي على التسامح والوسطية والاعتدال ويضعف لغة الحوار بيننا، وقد يعيق أيضاً عملية التطوير والإبداع في كل مناحي الحياة ويقف حجر عثرة ضد أي إبداع أو تقدم لوطننا.