الإنسان العربي سواء كان رجلا أم امرأة يعتقد في قرارة نفسه أنه إنسان اجتماعي جدا، وهذه حقيقة لا أستطيع لا أنا ولا كل المشغولين بعلم الإنسان على كافة رؤاهم ومدارسهم العلمية إنكارها. فالإنسان العربي هو بالفعل مخلوق بشري اجتماعي يمارس اجتماعيته بشكل مفرط في كافة جوانب حياته إن جاز لي التعبير باستخدام مصطلح مفرط. الإشكالية الحقيقية ليست في مدى كون العربي إنسان اجتماعي أو مدى عدمها، وإنما هذه الإشكالية تكمن في أن هذا الإنسان العربي دائما ما يخلط ما بين علو مشاعره وممارساته الاجتماعية و ضرورة وجوده مع الآخر وما بين حقيقة مشاعره نحو هذا الآخر. بمعنى أن الإنسان العربي يؤمن أنه وفي التوازي مع كونه إنسان اجتماعي جداً فإنه بالمقابل إنسان محب للغير جدا وهذا بالتأكيد ليس من الضرورة أن يكون صحيحاً. الإشكالية هنا لا تعود لكون الحب شعوراً معقداً بحد ذاته فقط -على الرغم من كل تعقيده وعلى كافة أطياف البشر وتنوعهم بالطبع- ولكن في غالبيتها تعود لكون مفاهيم الذات لدى الإنسان العربي غير واضحة على الإطلاق فهي مشاعر ضبابية ومتداخلة ومتأرجحة، لكون منظومة القيم المشكّلة والمراقبة لهذا الحب ولكافة المشاعر البشرية المختلفة غير ناضجة لدى الإنسان العربي ولا ثابته بالشكل الذي يتم فيه فرز وتشريح كافة الرؤى والأفكار والمنطلقات بدقة ووضوح كافيين لتمييز كافة الدوائر التي تتشكل منها هذه الذات، كدوافع وكمفاهيم وبالتالي كسلوك ينعكس بصيغة مشاعر وأحاسيس يستعرها هذا الإنسان نحو الآخر. بهذه الماهية الضبابية من الذات، سيتم ممارسة هذا الشعور المعقد بالأصل بالكثير من الضبابية التي يتم فيها مزج كافة رغبات وتطلعات وعقد الإنسان العربي بتناغم عجيب لا تظهر في شكلها الظاهري سوى صورة الحب الأفلاطوني التي يتماها فيه الإنسان مع الروح والسمو والسماء. ولكن في صورتها الحقيقية هي مجموعة مشاعر يتخالط فيها صورة شخص المحبوب بغريزة التملك بالرغبة المطلقة في أن نكون جزءاً من حالة الحب ذاتها (بمعنى أن نعيش صفة المحب والمحبوب بغض النظر عن ماهية الطرف الآخر في هذه الحالة). وفي الجانب الآخر ستتواجه هذه التطلعات أو بمعنى أصح، السلوكيات التي نمارسها في تقمص دور المحب بمجموعة نائمة من الرغبات المعسوفة القادرة على أن تلبس نفسها الثوب النفعي الذي تراه. بغض النظر عن كل هذه التفصيلات التي ذكرت، فإن النتيجة ستكون حتمية بأن يعيش إنسان الوطن العربي بحزمة كاملة من مشاعر ورغبات متباينة ومختلفة بطريقة تناقضية، تظهر وتمارس وتعاش وكأنها شعور وحيد واضح وشفاف هو حب الشخص الآخر. ولكن وفي لحظة ما، وهي في الغالب مرحلة ختامية وتأتي بشكل جنائزي عادةً، ستتخلى كل هذه المشاعر عن الهيئة التي كانت تظهر بها وتتلاشى فجأة، ليتبين في لحظة اللا عودة أن شعور هذا الإنسان كان مزيفا بالكامل. كان مزيفا بمشاعر مظهرها بالغ الإنسانية والروحانية في حين أنها في حقيقتها ليست سوى مشاعر بدائية وغرائزية متوارية ومخجلة مقارنة بالصورة التي يراها هو لذاته أو يرغب أو يطمح أو يحلم بها و يرى نفسه من خلالها. نحن كعرب نحب الآخر وبطريقة متفانية في ظاهرها في حين أننا لا نحب من الآخر سوى أنفسنا، بمعنى أن حبنا له ليس سوى وسيلة غير نزيهة لحب أنفسنا المشوهة التي لا نستطيع رؤيتها إلا من خلال هذا الآخر بالشكل الذي يجعلنا مجبرين على أن نجعل منه أداة نصل من خلالها إلى أنفسنا لا كما يبدوا بأن الغاية هي الوصول إليه كإنسان مستقل عنّا والتفاعل معه على هذا الأساس. من هنا يأتي حبنا للجنس الآخر وبذات الكيفية مع الأسف يأتي حبنا لأطفالنا أيضا. فكلاهما (أي الجنس الآخر أو أطفالنا) مجرد أدوات نمارس من خلالها حبنا لأنفسنا ولكن بطريقة ملتوية وبالغة الأنانية في حقيقتها. ففي الوقت الذي ندعي فيه بتبلد مشاعر غيرنا من البشر وعدم قدرتهم على التعامل مع الحياة بعاطفية أكثر وبالتالي عدم قدرتهم على منح الحب للآخر، فإننا نحن العرب لا نمارس من الحب سوى الجانب الأناني منه. فنحن نحب الآخر لأنه يحبنا ويمنحنا الشعور بأننا مرغوبون وبالإمكان الافتتان بنا ولا نحب الآخر لشخصه على الإطلاق. نحب أطفالنا لنلعب عليهم صغارا ثم نحاول في فترة لاحقة أن نجعل منهم أراجوزات تستطيع تحقيق ما عجزنا نحن عن تحقيقه وكأنهم مرحلة عمرية لاحقة لنا وليسوا كائنات بشرية مستقلة وفي النهاية نقوم بابتزازهم كبارا باسم الوفاء والعطف وصلة الرحم ونعيد تغليف كل هذا باسم الحب والعاطفة. فهل بالفعل ما نمارسه هوحقيقة الحب أم مجرد أنانية تعيد صياغة ذاتها بشكل مغاير ومظلل؟.