ارتباط الإنسان بالأرض التي أنبتته وغَذَته، يأتي شعوراً طبيعاً لديه، مراتع الصبا، وأماكن الشباب، والذكريات المكونة للإنسان هي جزء أساسي من نسيج حياته. قد يرحل المرء عن أرضه، أو يبتعد عنها لظروف معيشية، لكن الحنين للمكان الأول ظاهرة إنسانية عبر عنها كثيرون: كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل والشوق والحنين إلى الديار واحدة من الظواهر الشعرية الرئيسية في تاريخنا العربي. وقد عبر كثير من الشعراء عن حميمية الارتباط بالأرض جغرافياً وتاريخياً، وكلها تنطلق من مفهوم الصلة الوثيقة بالثرى، الذي شهد تفتح العيون، وتشكل الذات، وبناء الجسد. قال الأطباء ما يشفيك؟ قلت لهم دخان رمث من التسرير يشفيني إنها علاقة تكوين وتكوّن يعيشها الإنسان، وهي حالة طبيعية قد تخبو لفترات عند البعض، لكن يحييها البعد، ويشجيها الفراق، ويشعلها تقدم العمر، خصوصاً حين لا تكون ملذات الحياة ذات قيمة، فتصبح الذكريات والتوق للمكان والإنسان هي الوقود الذي يسعد النفس ويبهج الفؤاد.لم يكن للوطن عبر التاريخ مفهوم جغرافي محدد، فقد يصغر عند البعض ويكبر عند آخرين، وقد تلعب المسميات المكانية دوراً في تحديده. وأحياناً يكون المفهوم القومي محدداً له: بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان في العصر الحديث أخذ الوطن مفهوماً سياسياً، قد يضيق أو يتسع، لكن هذا المفهوم على اختلاف مساحته الجغرافية، قد لا يمس شغاف القلب، ولا يحيي الشجن عند كثيرين. ولم تنجح كثير من الدول الحادثة سياسياً، في بلورة هذا المفهوم «الوطني» الجديد لدى أبنائه. ولذا يرتبط كثيرون من أبناء أي وطن في حدود مراتع العائلة أو مواقع القبيلة، ويصبح الولاء الأكبر للوطن الصغير، المتمثل في المنطقة للمكان أو القبيلة للإنسان. وهذا أمر يستحق وقفة تأمل في إطار مجتمع، حديث في مظاهره، عصري في أشكاله، غير أنه مازال قديماً في انتماءاته، قبلياً في مفاهيمه. وهي مفاهيم ترسخها بعض الظواهر المجتمعية، والأنظمة الرسمية في بعض هذه الدول.في مرحلة التكوين التاريخي الأولى، كان البعد القبلي أساساً تعتمد عليه الدولة في تحقيق طموحها الوحدوي، لكن مراحل التحديث التي تعيشها الدولة، يتوقع أن تنتقل معها من مفهوم الدولة التقليدية في المفهوم السياسي، إلى مفهوم الدولة الحديثة ذات المجتمع المدني المساند للدولة. وتلك ليست مظاهر أو تشكيلات إدارية فحسب، بل لابد أن تتحول إلى ممارسات عملية تنقل الأفراد من مفاهيم ترسخت لديهم عبر قرون، إلى رؤى عصرية، يفرضها الواقع، وتؤكدها ممارسة التحديث المدني. ورغم اتساع البعد الجغرافي للوطن الذي سمح بالتنقل والاستيطان، والعيش في كيان وحدوي، إلا أن نزعة المكان والقبيلة كثيراً ما تكون العامل الأقوى تأثيراً، عند البعض: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد ويتواصل حديث الوطن في المقالة المقبلة إن شاء الله.