على الرغم من أني وضعت القبيلة قبل الوطن في العنوان، إلا أن القبيلة ليست أولى من الوطن ، ولا حتى معادلاً ، أو موازياً له. فالقبيلة ، موضعها الحقيقي في دائرة صغيرة داخل دائرة كبرى اسمها الوطن . ولكن وضعت أولا لأنها سبقت ولأنها أدنى درجة في سلم الرقي الحضاري فالوطن مرحلة لاحقة وراقية والدولة الوطنية شكل سياسي واجتماعي متقدم في تاريخ البشرية ، وهي الكيان السياسي الذي استقرت عليه الأمم الحديثة حتى الآن. ولا نكاد نجد القبيلة في الدول المتقدمة الحديثة مثل دول غرب أوربا والولايات المتحدةالأمريكية ، ذلك أن أحد مظاهر الحداثة هو الفردانية وما يرتبط بها من قيم النجاح والجدارة والمنافسة . عكس المجتمعات التقليدية الذي يشكل الفرد فيها ترسا صغيرا في عجلة الجماعة حيث يقاس نجاحه في إطارها وما أنا إلا من غزية إن غزت غزيت وان ترشد غزية أرشد. وقد قامت الدولة السعودية لا لتقضي على القبيلة كما حدث في أمريكا مع قبائل الهنود الحمر إن صحت الرواية ، وإنما لتدمج تلك الكيانات المتناثرة ، والمتناحرة ، في كيان أكبر ليشكل مع سكان الواحات، والمدن القليلة ، كياناً واحداً ، يمتد من البحر إلى البحر ،ليشكل كيانا واحدا اسمه الوطن . ولم يكن ذلك بالقوة وإنما بالسياسة وطرح المنافع ، بحيث أدرك رجال القبائل بذكائهم الفطري أن من مصلحتهم الاندماج في هذا الكيان الجديد الذي يخضع لحكومة مركزية تكفل لهم ما يشبع حاجاتهم . وشيئا فشيئا أدرك أفراد القبيلة كلهم أن الحاجات التي كانت توفرها لهم القبيلة من قوت وحماية وأمن صار الوطن يقدمها بشكل أفضل. ومنذ توحيد المملكة على يد المغفور له عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود تحت مسمى المملكة العربية السعودية والوطن يكبر والقبيلة تصغر بعد أن فقدت معظم وظائفها وتخلت عنها لصالح الدولة ، وهذا تطور طبيعي ويتفق مع السنن الكونية التي تسير عليها المجتمعات . ولكن مع بداية الألفية الثانية بدأت تظهر على السطح مظاهر وعلامات تستدعي صوت القبيلة الخافت في تظاهرة إعلامية صاخبة تمثلت في صحف وقنوات فضائية ومواقع الكترونية ، مما جعل البعض يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا -قد يكون مبررا أو لا يكون- من تلك المظاهر الارتدادية التي يرون أنها ستعود بنا إلى نقطة الصفر وكأنك يا أبا زيد ماغزيت. ومن الطبيعي أن تطرح تساؤلات عن سبب ارتفاع هذا الصوت المدوي التفاخري ، وفي هذا الوقت بالذات. يرى متبنو نظرية المؤامرة أن ما يحصل هو سلسلة من الخطوات تقوم بها الإدارة الأمريكية من خلال إثارة النعرات الطائفية والعرقية والقبلية ، لتنفيذ مخطط مرسوم لإقامة شرق أوسط جديد من خلال ما يسمى الفوضى البناءة أو الخلاقة التي بدأ تنفيذها في العراق . وأن ما يحدث هنا وهناك من مظاهر قبلية هو بتشجيع من تلك القوى وما هو إلا امتداد لذلك المخطط ، وخطوة متقدمة في تنفيذ تلك الأجندة التي بدأت بالغزو العسكري المباشر ، ثم ما تلاه من محاولات غزو ثقافي تمظهر في عدة أشكال كقناة الحرية وراديو سوا الموجهتين للمنطقة. في حين يرى البعض أن ما يحدث هو العكس وأنه رد استباقي محمل بكثير من الإشارات. والبعض يرى أن العولمة مسئولة عن ذلك باعتبار تلك المظاهر ما هي إلا ردة فعل تعبر عن الحنين للماضي والاحتماء به من أخطار العولمة على الهوية التي يرون أنها مهددة وبالتالي يعودون إلى قيم القبيلة وتمجيدها حفاظا على الهوية المحاصرة بحشد واسع من الآليات والعتاد .... وهناك فئة من الناس ، يرون أن عودة العصبية القبلية والتفاخر القبلي ، ما هو إلا إفراز لقصور في برامج التنمية . التي يرون أنها بقدر ما نجحت في بناء بنية تحتية من التجهيزات المادية ، فشلت في تطوير الجانب الثقافي والإنساني . مما أحدث نوعا من التخلف الثقافي أو الهوة الثقافية بين ما هو مادي وما هو معنوي ، وسمح لكل المظاهر القديمة المناقضة للتحديث أن تظهر للسطح ، عندما أتيح لها ذلك ، من خلال أجواء الحرية وظهور القنوات وما ارتبط بذلك من مظاهر كشاعر المليون ومسابقات المزاين. بالرغم من وجاهة بعض هذه التفسيرات وغرابة بعضها بل وسرياليته، إلا انه يمكن القول أيضا، أن الواقع المعاش يزخر بكثير من المنغصات والمشكلات التي مافتئت تضغط على كاهل الإنسان العربي، بحيث يلجأ إلى الهروب من الواقع المرير ، حتى لو تعلق بقشة. والدليل على ذلك الهوس الشديد والتعلق الكبير بمسلسل باب الحارة والنجاح الجماهيري المنقطع النظير الذي لاقاه . وما ذلك إلا لأنه ينقل الناس من واقع مر رديء إلى ماض يجسد القيم الغائبة والمفقودة كخنوع المرأة لزوجها ، وقوة وشهامة الرجل ، وتكاتف الجيران وتعاونهم وهي كلها تكاد تنقرض في مجتمعاتنا. وليت هذا الهروب يكون للأمام للبحث عن فضاء أجمل وأرحب وإنما يكون حركة انتكاسية للخلف للاحتماء بالماضي من ويلات الواقع ، وما الماضي بأجمل من الحاضر فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار . ان المنافسة بالمزاين هو الوظيفة الظاهرة للاحتفالات ، ولكن الوظائف الكامنة كثيرة ومنها الفخر بالقبيلة ، وتحقيق امتيازات ، وتعزيز مكانات اجتماعية ، ومكاسب اقتصادية . فمسابقات المزاين بحد ذاتها نشاط ترفيهي شعبي ولكن ما يرتبط بذلك من مظاهر احتفالية والإعلاء المبالغ فيه من شأن القبيلة هو عودة للماضي وهي ليست عودة انتقائية بحيث تنتخب القيم الايجابية فقط ، و إنما هي جلب للماضي بقضه وقضيضه ، خيره وشره و بكل ما فيه من مظاهر بالية عفا عليها الزمن مثل التفاخر القبلي والتقليل من شأن الآخرين وذلك كله وارد حتى ولو انتبه لها العقلاء من أبناء تلك القبائل وحرصوا على أن لا تتسرب إلى تلك التجمعات الاحتفالية لصعوبة السيطرة على جميع جوانب تلك الفعاليات . إن الانتماء الحقيقي في المجتمعات الحديثة هو للمدينة وللمؤسسة وللوطن وعندنا ما هو أعز من ذلك كله وهو الدين الذي يتسامى على جميع تلك الأشكال الدنيوية . ولذلك فلا ينبغي التهويل من شأن تلك الاحتفالات ، ولا التقليل منه ، إذا عرفنا أنها معاكسة لحركة التاريخ الاجتماعي ولا يمكن أن تكون البديل للدولة الحديثة . وتلافي سلبياتها وخفوت مظاهرها الغير مرغوبة مرتبط بمدى النجاح في تحقيق تنمية حقيقية ، وتصنيع ، وتحديث حقيقي ، تنال جميع جوانب الحياة المعنوية والمادية مع إعطاء الأولوية للتنمية الثقافية الموجهة لبناء البشر لا الحجر. --------------------------------------------------------------------------------------------------------------- تعليقات الزوار نشمي كاتب رائع خط بكيبورده كلمات تكتب بماء الذهب موضوع قيم يدل على فكر نيّر وعقل راجح اخوي عبد الله كما عهدتك تكتب المعاني بمداد من بياض قلبك اسرجت خيلك لتقارع الحروف وتمتطي صهوة المعاني لتجعلها بين أناملك طائعة تختار منها ماتريد عزيزي عبد الله نعم شخصت الواقع الذي نعيشه بكل دقة وللأسف هو مايحصل الآن وامريكا هي من عزفت على هذا الوتر ورقص عليه أشخاص طربوا لعزفها ولكن من عقله راجح عرف القصد وانكره وهذا والله سيكون للتفتيت والتشتيت وليتنا نعقل ذلك شكرا لك ياعبد الله منى المحمد كتب فأجدت ايها الكاتب الفذ ..حقيقة راااااائع ماسطرته يديك ابو عبدالله لم اتعود التعليق على الكتابات لكنك اجبرتني الان على ان اكتب لك فقط (انت مميز) فلاح نعم قصور التمية ساهمت في عودة العصبية القبلية ..شكرا لشجاعنك وقوة حرفك يارائع العتيبي اوافق الكاتب على جميع ماذكره وابصم بالعشره بعد خلف وقيت إذا رأيت بقلم : عبدالله العرفج .. آعتدل وأقر.! انسان عبد الله العرفج انسان من نوع اخر ولايهون حبي الاول خلف وقيت والله اني اموت بعاجل علشانها تجيب هالفلتات عندنا عاشق المداد أخي عبد الله الحروف والكلمات التي سطرتها معبرة وتجسم حقيقة في أنماط البشرية منذ الأزل في الوقت التي يتنافس فيه العباقرة وأصحاب البراءات على الاختراع والتطوير والتجديد في الحياة لخدمة البشرية جمعاء بكافة مكونات الحياة نجد فئة من ساذجة لا تستطيع أن تفتح عيونها في وهج الضوء فتلجأ إلى دفن مخها في التراب دون قدرة على المنافسة أو المشاركة في البناء نعرفهم في تحزبهم ونعراتهم وهذا معهود في سجل البشرية فلنقرأ موقف قريش وبنو قريضة من دعوة خاتم البشرية عليه الصلاة والسلام رغم قناعتهم بصدقه عيون الصقر برأيي أنها هوة ثقافية تفصل بين قيم المجتمع القبلي وقيم المجتمع العصري خلقها ضيق الأفق تجاه النمو الثقافي المتسارع الذي يعجل من وتيرة التحول في مقابل نقص ديناميكية القبول للوصول لمرحلة النضج الحضاري وهذا الافق يحتاج برامج تنموية مقصودة لتجعله أكثر مرونة في تقبل قيم جديدة يتبناها العقل الجمعي ليضع قدمه في سلم الارتقاء الذي لايقبل الارتداد.