نأتي لهذه الدنيا بعد مدة نقضيها في ظلمات بطون أمهاتنا اللاتي حملننا تسعة أشهر متوالية، في مرحلة تخلق وتكوين لملامح الطفل الجسدية والشخصية، وفور قدومنا للحياة يدهشنا ذلك الهواء الذي يملأ صدورنا ونعبر عنه بدموع وشهقات، ما هي إلا تعبير عن شعورنا بالاختلاف والدهشة والتجربة الحياتية الجديدة.تملؤنا الدهشة، نرى كل ما هو حولنا غريب وجديد وممتع، ونود أن نخوض تلك التجربة بلهفة عجيبة قد نلمس النار محاولة لمعرفتها، نحاول أن ندرك كل ما هو حولنا بحركات غير منتظمة من أيدينا الغضة، وحركات تعبر عن الدهشة التي نشعر بها، وضحكات بريئة تعبر عن تلك المتعة التي ندركها في قلوبنا الصغيرة.نضع كل ما تستطيع أن تقبضه أيدينا البريئة في أفواهنا، نحاول أن نعرف كنه هذه المادة ما هي ؟ ما طعمها ؟ نشير بأصابعنا إلى كل ما هو غريب عن عالمنا الصغير محلقين في روح من الدهشة والتمتع بتلك اللذة الرهيبة. وقد يواجه الأهل تلك التصرفات بالصراخ والنهي، لكننا نظل نمارس تمردنا وإشباع فضولنا عن طريق تلك الأدوات، اللمس والتذوق في محاولة لخلق تصورات بسيطة عن كل ما حولنا.وتستمر تلك الدهشة ترافقنا في سنين نمونا، وتتطور مع بداية النطق إلى أسئلة كونية عجيبة، فأعمق تساؤلات الأطفال ما هي إلا تساؤلات فلسفية ككيفية الخلق والقدوم إلى الحياة، ومكان الرب الذي نعبده ونشكره.ويختلف الآباء مع أبنائهم إلى نوعين فمنهم من يضلل أبناءه بأجوبة ساذجة لا تمت إلى الحقيقة بصلة ويتدرج الطفل في التربية والتعليم ليكتشف تلك الأجوبة التي استقاها من مجتمعة تنافي الحقيقة فيفقد الثقة في كل من أجابه في يوم من الأيام أب أو أم أو معلم.وإما أن تواجه تلك الأسئلة بالقمع والخصام، فيتربى الطفل صامتا ضعيفا يهاب التساؤل والنقد كما يهاب التحدث وإبداء الرأي. تلك الملكة التي يمتلكها كل طفل، كنز رهيب لو أتقنا استخدامها، تقود الطفل إلى نضج عقلي وتربية إيمانية قوية قائمة على الفكر والاعتقاد ولا تقوم على التلقين ومقولة يجب أن يكون هكذا . ولكن للأسف تلك الملكة،-وهي الدهشة- سرعان ما تختفي بعد السنوات الأولى حينما ندخل حظيرة الاعتياد ونرى كل الأشياء عادية ووجدت هكذا، وقلما نلتفت ونتساءل عن حقائق الأشياء وقد تشغلنا لقمة العيش عن أمور أعمق وتستحق التفكير في الحياة. الفيلسوف ما هو إلا إنسان فشل أن ينظر إلى الأشياء والكون من حوله بنظرة الاعتياد، استطاع أن يصقل روحه ليرى الأشياء من حوله بروح الدهشة والمغامرة، لا ينظر لها من منظور الاعتياد، واستطاع أن يهرب من تلك الحظيرة، إنه طفل كبير استطاع أن يحافظ على دهشته التي تدعوه إلى التفكر في كل ما يقرأ ويشاهد ويسمع.