للتو انتهيت من مشاهدة فيلم أجنبي، يُرمى البطل «الوطواط» في ما يشبه البئر السحيقة، مع سجناء آخرين، في البئر يوجد حبل، يمكن للسجين استخدامه، يصعد به درجات، لكنه في لحظة ما، عند نقطة ما، يجد نفسه مجبراً على ربط بطنه بطرف الحبل، اتقاء للسقوط المميت في حال الفشل، فهو أمام خيار وحيد: القفز من صخرة إلى صخرة عبر مساحة كبيرة، وفي كل مرة يحاول فيها البطل فعل ذلك، يصل إلى النتيجة المنطقية، معلّقا في الحبل على مسافة بعيدة من نقطتي الوصول والعودة معا، فينزل ببطء بمساعدة الحبل إلى نقطة الصفر، كررها مرات عديدة، وقبل كل مرة جديدة كان يعاود التدريب والتمرن، لكن النتيجة واحدة، لكنه قبل أن يقفز قفزته الأخيرة، سمع سجينا يقول له: لن تنجح، إلا إن قررت القفز دون ربط نفسك بالحبل، أضاف شارحاً ما معناه: تشجّع بالخوف نفسه، ما دمت مطمئنا إلى أن الحبل سوف يبقيك حياً، فسوف تبقى حياً لكنك لن تصل، لابد من شجاعة خائفة لأن الثمن باهظ ونهائي، وجاءت القفزة دون حبل، ولأنها كانت الأخيرة في كل الأحوال، فقد نجحت، وخرج من السجن المرعب، خرجت من الفيلم وأنا أفكّر في أمر الفنون عموما، الشعر والرسم والمسرح والغناء والرواية والسينما والقصة القصيرة والنحت، لجميعها قوانين عامة، ولكل منها أساسياته ووسائطه، تشملها نظريات أدبية وفنية عامة، ويتفرّد كل منها بما يخصه، وأظن أن كل هذه النظريات والمدارس والقوانين والمفاتيح والوسائط، ليست سوى حبل، كلّما ازداد الفنان منها، أمتن حبله، وجعله آمنا أكثر، لكنه يظل عاجزاً عن إطالته، أو أنه متى نجح في إطالته انتقل من خانة الفنان إلى خانة الأستاذ الجامعي، فهو لا يجب أساسا أن يعمل على تطويل الحبل، وعليه أن يكتفي بتمتينه، غير أنه في كل فن، فضاء لابد من القفز فيه، لولا ذلك صارت الكاميرا أعظم بكثير من فان كوخ، لابد من فضاء مخيف ومرعب، يستلزم قفزة شجاعة، قفزة ترمي وراء ظهرها بكل ما تعلّمته ودرسته وتفهمته وتدرّبت عليه، ومواجهة الدنيا كلها بتحدٍّ فارغ من أي مساعدة خارجيّة، فإن نجح الفنان في الوصول، فإننا لا نرى منه في الحقيقة عبر نتاجه إلا ما طرأ على فكره وقدراته أثناء القفزة، كلما عظم نتاجه وشعّت قيمته، حكت لنا كم كانت القفزة خطرة ومهولة، هذا هو حبل الفن السري، لابد لك من المعرفة لجعل الحبل قوياً متيناً، فأنت بحاجة ماسّة إليه في البداية، غير أنك في لحظة ما يجب أن تقطعه، لا لتكمل الطريق، لكن ليكون هناك طريق أصلاً، هذا هو الفن: خيار بين أن تكسب الحياة كلها في لحظة، و بين أن لا تكسب لحظة واحدة في هذه الحياة..!