في طفولتي كنت أتابع بانبهار ذلك الرياضي الذي يجري ويجري ثم يركز الزانة في الأرض ليقفز قفزة عالية على مساحة متسعة من الهواء فيشبه الى حد بعيد شهقة من يتابعونه ليتخطى بعد ذلك قائمة عالية ويسقط بعدها على الفراش الإسفنجي بسعادة بالغة إن كان قد حقق تميزا في تلك القفزة. هذه المرة لم أشاهد الزانة ولا من يقفزون بها ولكن تلك الصورة تلح علي كلما رأيت من يقفزون بالزانة. صورة القافز وصورة انبهاري واعجابي وتعجبي به ومنه. ومن شدة الاعجاب توهمت أني قادرة على فعل ما يفعله وكأن الامر كله متعلق بالزانة لا بالشخص نفسه. وكأن القفزة نتيجة حتمية لمرونة الزانة لا لمرونة القافز ايضا بعد مروره بتدريبات طويلة وصعبة. وكنت اتخيل انه لو اتيحت لي الفرصة وقدم لي احدهم زانة وقائمة وفراشا يحميني من السقوط لفعلت مثل ما يفعلون. اليوم مع عودة هذا الموضوع للذاكرة اكتشفت أن كثيرا منا قفزوا في حياتهم بزانات كثيرة وتخطوا قوائم كثيرة وعالية.. وحققوا نجاحات وأخفقوا مرات في خضم استمرارية تجارب حياتية عميقة ساعدتهم في الاستمرار في بناء مشروع الحياة الإنسانية الخاصة بهم. وهناك آخرون جاءوا وذهبوا.. يشبهون في ذلك الجماهير المتفرجة التي تسمع شهقاتهم وصرخاتهم وتصفيقهم.. ولكن القافز كانت شهقته تطول.. وتطول بطول المساحة الممتدة بين موقع ركز الزانة والطيران باتجاه القائمة لتخطيها. فالطريق ما بين موطئ القدم واعتلاء القائمة طويلة ومحفوفة بالدهشة وعلى قارعة الفراغ ما بين هذا وذاك تنبت حبال نتعلق بها إن كنا على هاوية السقوطفي واقع الحياة تختلف الشهقة عنها في صالة الالعاب الرياضية. في الحياة تطول الشهقة ويرتفع صوتها من الداخل للخارج نادرا. ومن الداخل للداخل كثيرا.. ربما سنوات.. وسنوات ولكن يبقى النظر معلقا بتلك القائمة آملا في تخطيها وانتظار لحظة السقوط على الفراش بالسعادة التي ينشدها لدرجة انه يهب واقفا يقفز يمنة ويسرة من شدة الفرح وفي الوقت نفسه يتردد صدى الخوف باستمرار من لحظة سقوط على الإسفنج بثقل كما لو كان ذلك الاسفنج يمتصه ليحتفظ به رهينة للإحساس بالألم.. والعناء. حالة انسانية عميقة تمثلها تلك الرياضة وكأنها تختصر مثلا يضرب للحياة والتعامل معها وفيها.إن مهارات الانسان واخفاقاته اثناء حياته تشكل تاريخه المتغير باستمرار. ومعناه القابل للتجدد كنص ادبي يتجدد ويتبدل بتجدد نقاده واختلاف نظراتهم ونظرياتهم التي يأخذون بها. وتختلف ايضا باختلافه هو وفقا لتجارب ماضية تحدد مسار الآنية حتى لو كانت في الاتجاه المضاد!! فلا يستطيع أن يقول إنه هو كما كان بالأمس أو كما كان قبل عشر سنوات. فالطريق ما بين موطئ القدم واعتلاء القائمة طويلة ومحفوفة بالدهشة وعلى قارعة الفراغ ما بين هذا وذاك تنبت حبال نتعلق بها إن كنا على هاوية السقوط. [email protected]