ذكرنا، في المقال السابق لهذا، أن وضع العالم الاقتصادي – السياسي منذ انهيار المعسكر السوفييتي، سنة 1991م وحتى الآن، ومنذ تحول النظام العالمي إلى نظام القطبية الأحادية، وتربع الولاياتالمتحدة، التي توصف بأنها زعيمة العالم الرأسمالى “الحر”، على قمة النظام العالمي، كقطب وحيد –حتى إشعار آخر– هو وضع غير مُرضٍ، ولا يمكن قبوله. وهو -بالقطع- ليس في صالح أغلب الدول النامية. بل إن العالم ككل أصبح، منذ 1991م حتى الآن، في أوضاع اقتصادية وسياسية أسوأ من ذي قبل. ثم ذكرنا، وبشكل عابر، بعض أهم شواهد هذا التدهور، في هذا “القرن الأمريكى”. لقد ساهمت بعض سياسات الولاياتالمتحدة، والتطرف الرأسمالى الغربي، في نشوء هذه الأوضاع البائسة. ومع ذلك، يجب أن لا نلوم الرأسمالية (وخاصة المطلقة) في كل ما حصل بالعالم من تدهور سياسي واقتصادي وأمني، وفي مستوى الرفاه الاجتماعي، في كثير من دول العالم النامي. كما يجب أن لا نغمط الرأسماليين حقهم فيما تم على أيديهم، من بعض الإنجازات التقنية والعلمية والاقتصادية الكبرى. ومع كل ذلك، لا يمكن تجاهل العيوب.. والقول إن: العالم بات “أفضل”، من ذي قبل.. بعد تسيد الرأسمالية (وما يتعلق بها من سياسات) في هذه المرحلة، التي إن أحسنَّا الظن بها، فلابد من القول إنها لم تنجح (حتى الآن) من التخفيف من وطأة متاعب ومشكلات إنسان العالم الحاضر. وهذا ما يؤكد تفوق (وفضل) الحل القائم على “التوسط” والاعتدال (لا ضرر ولا ضرار) والمؤكد على مصلحة الجماعة أولاً.. وهو الحل الذي يدعو الإسلام الحقيقي إليه. وليت العالم يبلور هذا “الحل” في صيغة ديمقراطية (شورية) عملية.. قابلة للتطبيق والنجاح. فما أمس الحاجة إلى حل عملي وسط؟!.. بعد أن عانى البشر كثيرًا ، على يد المذاهب المتطرفة في تحمسها، إما للجماعة (على حساب الفرد) أو للفرد (على حساب الجماعة).. وهناك في العالم توجه متنامٍ نحو الوسط المذكور. **** ولاشك أن هذا الوضع العالمي الحالي البائس يعود إلى عدة أسباب، لعل أهمها: سوء وانتهازية سياسات القطب المهيمن على مقاليد العلاقات الدولية الراهنة، التي يسود فيها الآن -وحتى إشعار آخر– كقطب وحيد.. إذ يؤخذ على هذه السياسات اتسامها بالانتهازية وبالإمبريالية.. المتمثلة في الرغبة الجامحة في السيطرة على العالم (بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة) وفرض النفوذ الأمريكى عليه، مع ادعاء حماية مبادئ: الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، في الوقت الذي تقف فيه كثيرا –وبالفعل– ضد هذه المبادئ، وتسحق شعوبا كثيرة –ظلما وعدوانا-، هذا إضافة إلى تحالفها مع الحركة الصهيونية العنصرية، ولجوئها (وحلفائها) المستمر لازدواجية المعايير، وإشعال الفتن الطائفية والحروب المذهبية، خاصة في الشرق الأوسط. ولعل أبرز الأمثلة على هذه السياسات السلبية هي: قيام أمريكا –ودون مبرر حقيقي- بغزو واحتلال وتدمير العراق.. للهيمنة على موارده، وتقسيمه، وضرب مناوئ قوى لإسرائيل.. تمهيدا للسيطرة الأمريكية – الإسرائيلية على المنطقة. وكل ذلك ينم عن توجه أمريكى مفرط في الأنانية والاستهانة بحقوق الآخرين.. ولا يكترث –بقدر مناسب– بأمن وسلام العالم الحقيقيين، ويتجاهل مصالح غيره، بل ويستفز هذا الغير.. الأمر الذي يسيء حتى إلى المصالح الأمريكية العليا، في المدى الطويل، ويؤكد عدم قدرة –ومناسبة- أمريكا على “قيادة” العالم في اتجاه الأمن والسلم الحقيقيين، واتجاه التنمية الإيجابية المستدامة، التي تعتبر الإنسانية في أمس الحاجة لها. ومن الإنصاف القول إن: الشعب الأمريكى هو شعب راقٍ متحضر، محب للعدل والحرية والسلام، ولا يرضى بالاعتداء على أحد. وبالتالي، فإن معظم السياسات الخارجية الأمريكية لا تمثل هذا الشعب الطيب، ولا تعكس توجهاته الحقيقية، وإنما تقف وراءها قلة قليلة من ذلك الشعب (بعض جماعات المصالح، وخاصة جماعة التحالف العسكري – الصناعي التي حذر منها الرئيس الأمريكى أيزنهاور). ومن غير الإنصاف، بالطبع، أن نرد كل هذا الوضع الاقتصادي – السياسي العالمي التعس إلى بعض السياسات الأمريكية، وتخبط الكاوبوى الأمريكى فقط. فهناك “أسباب” أخرى.. من أهمها: الانفجار السكاني العالمي.. وعدم كفاية الموارد الطبيعية الراهنة في العالم، لمقابلة هذه الزيادة الهائلة في السكان، وخاصة في بلاد العالم النامية. أضف إلى ذلك: سوء الإدارة، والاستبداد السياسي في بعض الدول، والفساد الذي استشرى في أغلب العالم، وبقدر لم يعهده العالم من قبل.