ذات خفة حمل جبته راحلاً نحو الليل. غطى جثته بعباءة الوقت، نزع المسافات عن جبين البحر، ساحباً أحزانه واحدة تلو الأخرى. غاسلاً موجات البحر برداءة الميت وأحلامه النازفة فوق الأسوار. طفولة تعتلي المشهد.. ووجوه تسابق الزمن في مسافات التمر الإسفلتي. ومن بينهما يشق جيب رصيفه، يخرج زجاجته الأخيرة ليعود للهذيان من جديد. وجهه أقحوانة صيف عابرة في شتاءات السحب.. وصيف يتمرد على صدر امرأة لا تعرف قراءة الوقت بعد.. حملها بين شفتيه.. صعد جبلاً تناثرت حجارته.. لم يتعثر في الصعود.. لكنه تعثر عند مدخل القمم وأصبح يتدحرج.. مرات ومرات.. أخذته حورية الجبل بين يديها.. وكلما ارتمى بين صخرتين قذفته الثالثة في دحرجة جديدة.. ظل يتدحرج والدخان ينبعث من قمة شعيراته المبيضة مع الزمن.. هوى ذات صباح لكن هذيانه أصبح صدىً لصوتٍ تحشرج في مربع المسافة.. صمت.. وشيء من الرحيل يسكن ضجيج المشرب، وبعينيه المحدقتين يصطدم بنسوة تعري الوقت وساحة المسجد، وحدقة .. .. المرمية على أفق اللحظة.. من يكسِّر عتمة صمته هذا النهار.. ومن يعانق رحيله سوى بعض المارة الذين يقلبون وجههم في أوراق صفر وأجسادهم نائمة في نعيم صحراء قاحلة.. خرج من جبة الجبل.. نفض بقاياه متسائلاً: لماذا لم يكن كتلك الشجيرات لا همّ لها سوى البحث عن جذور الماء.. لماذا لا يفكر سوى بقامته الباحثة عن ضوء شمس محرقة وجذع نخلة لا يعرف السوس مسكنها بعد.. من جعله يرشق الزمن بوريقاته ويظلل الوقت بجذوع تكسر حزنها كل يوم تحت هذيانات عمر لم ينكر الزمن بعد؟.. خمسة تشبثوا في ذاكرته، حملهم نحو الشراع واكتظاظ المخيلة، هزيز الريح يعوي في أذنه الوسطى. وكلما رحل بعيداً عن التربة، شده الصمت إليها محاولاً الهروب من وجع مُحتمل.