كيف لم أنتبه..! أن للريح ساقين.. للنخل ذاكرة متعبة..! حين كنتُ صغيراً.. سألت أبي كيف ينمو النخيل ارتفاعاً.. ويشرع للريح أبوابه بينما الأرض من تحته معشيه..! كيف لم أنتبه..؟ حين قاس المسافة بين النخيل وبيني.. وبين الظلال وبيني.. وأطبق مسحاه في الأرض حتى تشظت ظلال النخيل وقر بعينيه وهم الشبه..! @@@ كلما أقدح ذاكرتي.. واستحضر لحظات نادرة من طفولتي.. يقف فوق شفتي سؤال عريض كنت أكرره دائماً لأبي.. فيفاجئني حينها بابتسامة ذاهلة وصمت مطبق يستفزني للمزيد من الأسئلة.. لم يكن أبي يرحمه الله على قدر كبير من العلم، رغم كونه إمام مسجد قريتنا الحالمة.. لكنه في الوقت ذاته كان يمتلك ذهناً يستشرف ما وراء اللغة، وثقافة قرآنية ترسم بوضوح جغرافية محاورته.. بهدوئه الذي أراه آنياً رغم مرور أكثر من عقد ونصف من الزمان على رحيله! المهم في الأمر ان السؤال الذي استحضره باستمرار كان يرتبط بمصاحبتي له في الصباح الباكر باتجاه مزرعة لنا تعج بالنخيل والحناء وتلك الأعشاب الطفيلية التي تتعلق بجذوع النخل، كنت حينها في عمر لم يؤهلني بعد للذهاب إلى المدرسة، لكنني في الوقت ذاته مكلف بمهمة خاصة ربما يدركها من تعايش مع حياة النخل، وأعني بها سقاية الفسائل عن طريق الحقن، أي صب الماء في حلق الفسيلة مباشرة. كنت كل صباح أشعر بقصر قامتي إذا ما مررت بنخلة كنت أسقيها بالطريقة ذاتها حينما كانت فسيلة، وربما يكون هذا هو الدافع الحقيقي للسؤال الذي استحضره كلما استحضرت طفولتي، وهو ذاته الذي مات أبي دون أن يجيبني عليه.. لماذا يكبر النخل ارتفاعاً.. بينما تكبر الأعشاب والحشائش انبساطاً؟ ربما لم أدرك حينها أن نمو النباتات كلها يبدأ بالاتجاه الأعلى، بل إن هذا الأمر يبدو في ظاهره طبيعة من طبائع مخلوقات الله.. لكنني لم ألحظه جلياً إلا من خلال النخلة التي كنت أقف على أصابع رجلي لأستطيع سكب الماء في حلقها وهي فسيلة حتى كبرت علي واعتلتني بعدما استغنت عن تلك القطرات التي اسكبها في حلقها.. المهم انني كنت دائماً ما ألهج بهذا السؤال، وألقى ذات الابتسامة والصمت لكنني في الوقت ذاته أشعر بأبي يهم بالإجابة علي كلما صادفنا في دربنا إلى مزرعتنا نخلة هرمة صرعتها رياح الليل التي كانت تهب عاتية في بعض الأحيان.. لكنني انصرف بحزني الطفولي عليها فأتجاهل السؤال والإجابة معاً.. اليوم بعد مرور أكثر من ربع قرن تقريباً على كل ذلك، وبعد أن تبدلت الحال وجفت المياه عن تلك القرية وهجرتها العصافير ولم نعد نسمع غير عويل الأعجاز إذا هبت الرياح الشرقية العاتية عليها، ما زلت أبحث عن إجابة على ذلك السؤال الذي أطلقته بعفوية الطفولة.. وتحت جناح الأبوة ليظل وحيداً بعدهما دون مكان أو زمان أو حتى شعور بأهمية الإنصات فضلاً عن البحث عن إجابة..!