يموت الإنسان العربي اليوم من أجل الكرامة، أمام الجيوش، من أجل الحرية، لربيع عربي أم لحلم عربي؟ ثمة دعوة للتفكر، ونقد للذات، وللواقع وللتاريخ؟ ودعوة للوقوف على واقع نعيشه، وللاستفاقة من دوامة جديدة، لن توصلنا بالتأكيد إلى أرض الحريات، وأنا هنا لا أستثني نفسي؛ لأني أول الحالمين بربيع عربي، ولكن الأسباب والمعطيات اليوم أكبر منا ومن الأحلام. فهل هو ربيع عربي حقيقةً؟ المسأله بالغة في التعقيد، فسنوات من التسطيح والتهميش لا تختزل في رغبة شعب في التحرر! ولا بأحلام بديمقراطية! وإنما هي عقدة كبيرة واضحة لشعوب غضبت بلا معرفة، وتصالح مع رغباتها الحقيقية التي جعلتها تثور بداية! فالكثير من الثوار لم يعرف لماذا هو ثائر، والي أين المرتجى؟ حالة تخبط كانت واضحة وكأنها نفس تنازع لحظات موت! وعندما سئلوا «من أنتم وماذا تريدون؟» تعددت الإجابات، وتخبطت الوجوه، ليسقط القناع والربيع معهم. والسؤال هنا هو ما مدى معرفة هذه الشعوب بالحرية؟ وهل هذه الشعوب تعي الثورات؟ أو أنها مالت عبر عصور إلى الأحلام هرباً من واقعها؟ هرباً من ثقافة تقليدية تسامحت وتعايشت مع الطغيان، ورفضت التغيير من أجل النمط الأوحد؟ ومن هم الرواد الذين أسسوا للفكر الحر في تاريخنا، ليصبح لنا ثقافة اسمها الحرية؟ الوعي العربي اليوم هو أسير لحركات عروبية وأصولية تأسست في الثلاثينيات من القرن الماضي، وانبثقت من فكر غربي فاشل، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، رجل مثل ميشيل عفلق كان له الأثر الكبير في صياغة الوعي السائد اليوم، ورجل مثل سيد قطب أسس لفكر نحن اليوم نعيشه! وفي حقيقة الحال، نجد أن ميشيل عفلق نقل عن هيردر، وسيد قطب نقل حرفياً من القسيس كاريل في كتابه «الأصولية الإسلامية»، وكلاهما مفكران أوروبيان فاشيان! البحث في التاريخ يفتح لنا سبل الحلول والاحتمالات للواقع وللمستقبل، وبدون غربلة مستمرة للتاريخ، لن نفهم الذهنية العربية، ولن نتواصل مع الفكر الذي يسكننا؛ لأننا شعوب بالغت في كل شيء غير ملموس، ليكون ملاذاً لها من واقعها الملموس. فباللغة -مثلاً- تفنن العرب في تلميع الأصول والمفردات، كمخرج لواقع بائس يعيشونه، فنجد شواهد المبالغات والتخيلات التي تلبست صور التاريخ وصدقناها كثيرة، فحرب البسوس -مثلاً- وثّقتها اللغة في التاريخ العربي على أنها من أشرس وأقسى الحروب وأكثرها دموية، حرب استمرت أربعين عاماً، بينما ذكر لنا الأصفهاني في كتابه «الأغاني» أن القتلى لم يتعدوا الأربعة عشر قتيلاً في هذه الحرب طوال أربعين عاماً؟ فالأحلام كانت دائماً أكبر حتى من تاريخنا!، ومن البسوس إلي شعوب تحلم بالحرية من قذافي يناديها «بالجرذان»! كما كتب لنا رائعنا الكاتب محمد المحمود عن العصور الذهبية، وكيف أنها كانت عصوراً تُقطع فيها الرؤوس ويباد المئات برفعة يد حاكم! عصوراً كان ملوكها يخاطبون الآخرين من نظرائهم من الملوك ب»من (فلان) ... إلى (فلان) كلب الروم ...»، فما الفرق بين من يوصمنا بالجرذان ومن ينادي بالكلاب؟ إلا أن ذاك هو التاريخ (الكلاب) وهذا هو الواقع (الجرذان). من هناك ابتدأنا ولكم أن تتخيلوا إلى أين سننتهي! فما عجزت عن تحقيقه هذه الجماهير من حرية سببه، سادتي، الأعلى: التاريخ! فلماذا اختطفت الأصولية والسلفية الإسلامية الثورة، بينما من كان في الشوارع والميادين هم الشباب الذين لا يمثلون أياً من هذه الاتجاهات؟ السبب هو الأعلى. تكرر المشهد في تونس وليبيا ومصر، وقد نشاهده في اليمن وسورية قريباً! وستنتصر الأصولية والسلفية، ستنتصر الأحادية ليترسخ ثانية الاستبداد! فكيف سيحقق الحرية بشر لا يعرف طوال نصف قرن إلا الاستبداد والقهر، حتى أصبح هذا القمع جزءاً من طبيعته الإنسانية، بل هو طبيعتها الوحيدة؟ الجمهور اليوم فضّل أن يراهن على الغيبيات هرباً من الواقع! لأنه نتاج أنظمة طوعته على الغيب ليهجر الحياة ويحلم بالجنة الموعودة. العدالة والديمقراطيات، لا يأتيان إلا بتجارب الناس، وتراكمات الزمن لعقول مرفوع عنها القيود والأغلال، ولا تتحقق العدالة إلا برفع القمع بالدول التي أسست للإذلال! لتبقى شرعيتها! بينما هي في الأصل فاقدة للشرعية، لسبب أوحد بسيط، وهو أنه لا شرعية لدول ليس لشعوبها وطنية ولا انتماء حقيقي. ربيعنا هو حلم عربي جميل .. جميل جداً .. ولكنه لن يتحقق! لأننا شعوب فاقدة للتجربة وللذهنية الحرة المتعددة، ولأننا مازلنا مكبلين بأغلال الغيبيات، منسلخين عن واقع لغد هو موعود.