مبارك بن خميس الحمداني أي مجتمع وأي ثقافة تمتلك في داخلها آليات أو نظماً معرفية محددة، خاصة بعمليات التلاقح الفكري والتفاعل الثقافي. بحيث تستطيع كل ثقافة استيعاب المنسجم والمتناغم، وذلك أمر طبيعي يتشكل بتشكل أي نمط ثقافي، إلا أن عملية التوجيه الفكري هي الأمر الذي يحتم التحكم في مسارات الاقتباس الحضاري، فالقائمون على عملية الاقتباس ليست كيانات ثقافية جامدة طبيعية، وإنما هم الأفراد ذواتهم الذين يختلفون في محصلاتهم الفكرية ومداركهم الثقافية ومحركات وجودهم الثقافي في سياق النسق، إن مسألة الاقتباس الحضاري تقوم على خمس عمليات متشابكة تتفرع كل منها من صلب الأخرى، وهي (التواصل والتفاعل والاستيعاب والرفد والتغذية المتبادلة)، وهنا نحدد المسارات المثلى للاقتباس الحضاري الأمثل في ثلاثة أبعاد رئيسة: -1 ألا يكون الاقتباس ضرباً من الترف الفكري أو الترف المادي: أي أن تكون هناك خطوة تقييمية لقياس الجدوى الحقيقة النابعة من الحاجة إلى الاقتباس، وأن يعزل على الجانب المقابل جميع المحتمات التي تشكل سوداوية الحدود والأيديولوجيا الزائفة، فلا نمتنع على سبيل المثال من الاقتباس من حضارة معينة أو مجتمع معين بدعوى حدث تاريخي حمل نوعاً من الصراع، أو بدعوى أن المجتمع يحمل ديانة مختلفة، فقاعدة الدين والهوية تظل ثابتة راسخة ما دام هناك استقاء حقيقي وقياس فعال للحاجة الحضارية وموضوعيتها ومدى تقديمها خدمة لمعالم ومسارات الإنجاز الحضاري في المجتمع. -2 الضبابية بين اقتباس العلم والمعرفة وأساليبهما أو اقتباس الأيديولوجيا وبرمجتها وصراعاتها: وذلك واحد من محددات السقوط ومسببات الأمراض الاجتماعية التي تعاني منها حضارتنا المعاصرة، وهو الذي شكل «عماء الانتقائية» في المقام الأول، ومن ثم التهاب الساحة الفكرية في المقام الثاني، فكثير من مقتبساتنا الفكرية والحضارية مقتبسات مصحوبة بدوافعها الأيديولوجية، وفي كثير من الأحيان بالصراعات المصاحبة لتلك الأيديولوجيات، فإذا ما أردنا اقتباس منجز حضاري يخدمنا ويخدم رقينا الحضاري فوجب فصل تلك المعرفة أو ذلك المنجز من سياق أيديولوجيته والصراعات التي صاحبت نشأته وصاحبت إسقاطها على الواقع الاجتماعي، وتلك العملية مثيلة تماماً بفصل عنصر كيميائي من مركب أو محلول معين. -3 الزج بالمنتج في السياق الاجتماعي والدفع به في مسار التقدم الحضاري: عندما نستورد ونقتبس من الحضارات والثقافات الأخرى لسنا لنباهي بالمعرفة والرقي الفكري والمادي، أو لنجعل من ساحات مجتمعاتنا الفكرية مجالاً تسوّغه المراهقة الفكرية، فعندما نتحدث عن العقد الاجتماعي مثلاً أو أي منتج فكري حضاري غربي، فإننا أمام تجربة تطبعت بأوصاف زمان ومكان وقوم معينين ووسط ظروف اجتماعية واحتياجات مجتمعية معينة، وساقتها ووجهتها أيضاً ظروف معينة، فلا يُعقل أن نستورد ذلك المنتج ونطالب جازمين بتطبيقه بما هو عليه من وضع واستاتيكية على واقعنا الاجتماعي، وإنما تتحدد هنا معالم بصيرة الانتقائية لدينا، التي أعتقد أنها العامل الحاسم في نجاح الاقتباس الحضاري والثقافي من عدمه، إننا في هذا السياق لا نشير إلى جعل الآخر الأصل الثابت ونحن وثقاقتنا الطارئ المحتاج، لأن هذا استلاب للأمة في أهم خصائصها وقطب مسيرتها، وإنما وجب التقييم والتقويم وديالكتيك المواءمة الذي يتشكل قوامه على ثلاثة عوامل رئيسة: -1 الانفتاح المستنير بضوابط متعلقة وجعل الإنسانية هي أسمى قيمة في سياق الاقتباس. -2 إدراك متطلبات النهوض ومن ثم هضم المستقى الحضاري على أساسه وفق قواعد العلم والمعرفة. -3 ضبط الإعجاب المستثير والانجرارات النفسية الزائفة خلف ما أنجزه الآخرون ووضع كل منجز على مسطرة أبعادها (الحاجة، الزمان، المكان، الأهداف، استشراف المستقبل). وخلاصة قولي هنا، أنه بالضوابط السالف ذكرها والوحدات المحددة نكون قد اقتبسنا اقتباساً يخرج من دائرة عماء الانتقائية والنقل التلقفي الزائف إلى اقتباس يمارس فيه التفكير والتحليل والانتقاد وتسخر فيها الإمكانات العقلية والإدراكات القيمية لخدمة مسيرة النهوض الحضاري والتجديد المجتمعي.