لقد بحت أصواتهم وهم ينادون ويصرخون ويستغيثون ويستنجدون، لكن الواقع لايزال (أصنج) أو هو استحلى الصمم.. يا ترى هل هناك بين المعنيين بأمر المستقبل في هذا البلد، هل هناك بينهم أحد يريد أن يسمع وأن يرى وأن يفعل شيئاً للشريحة الأكبر في هذا المجتمع، بالطبع أعني شبابنا الذين يعيش معظمهم اليوم على شفا الهاوية هاوية الضياع والحرمان والانتحار البطيء، إذا كان هناك من يريد فعلاً أن يفتح أذنيه فلا بأس أن أدير الأسطوانة الحزينة المؤلمة المريرة حد الموت مرة أخرى، لتصدح بصرخات فتياننا وفتياتنا وهم يقولون إنهم لا يشعرون بأدنى رابط للانتماء لهذا المجتمع، كونه لا يعبأ بهم ولا يبرع إلا في تأنيبهم ولومهم «أنتم كسالى وغير جادين ولا تريدون أن تشقوا وتتعبوا»؟ «كنا في المدرسة نتلقى دروساً عظيمة في المبادئ والأخلاق السامية، لنخرج ونرى ما تعلمناه للتو يئن تحت وطأة زماننا».. «لقد ذهبنا إلى كل مكان، وجربنا التقديم إلى معظم الجهات، العامة منها والخاصة، سافرنا و(تبهدلنا).. وإن وجد بعضنا عملاً يقصّر فيه قليلاً من طول ألسنتهم. فإنه لا يعدو عن حارس أمن (سكيورتي) مثلاً، بمرتب لا يتجاوز (ألفيْ) ريال أو مجرد طرطور في الشركة الفلانية أو المؤسسة العلانية بالراتب نفسه، فبالله ماذا يكفي.. أكل ولا شرب ولا إيجار ولا مشاوير ولا إيه ولا إيه».. «إن القطاع الخاص يقبل ببعضنا بعد ما يطّلع عيونهم وينشف ريقهم ويكرههم في عيشتهم، ويا ليته يتركهم عند هذا الحد، بل إنه بطرق بارعة يطيّن حياتهم، إذ يجعلهم، غصباً عنهم، بذكاء التخطيط وتسليط الأجنبي، يتقاعسون ولو بدرجة بسيطة، حتى يقوم بفصلهم أو يأخذونها من قاصرها ويطفشون!». «إننا مثلهم، نبحث عن وجود وعن معنى لحياتنا في (عمل) دائم ومستقر يضمن لنا عيشاً كريماً ودوراً ذا قيمة في مجتمعنا. لنا أحلامنا، مثلهم تماماً، في سكن لائق يسترنا وسيارة تحمل تعبنا وزوجة تغمرنا بالدفء وأطفال يأخذون بأيدينا كي نواصل الركض في ساحة الحياة، كلما أعيانا المسير ونغصت علينا أشواكها قطروا ضحكاتهم البريئة في قلوبنا وعيوننا لتقاوم الحزن والذبول. أولسنا، كلنا، من خلق إله واحد ننتمي لذات الدين ونتكلم ذات اللغة؟ فلماذا لا يسمعوننا ولماذا يلومون الضحية دائماً؟« كما ترون أو تلاحظون: إحباط هائل يلوك وقتهم، ويأس قاتل يتمدّد في أيامهم.. وشعور باللاجدوى من كل شيء في حياتهم، إنهم بهذه الحالة يبدون مهيئين تماماً لدخول عالم الانحراف من أوسع أبوابه، ولا يعوزهم التدريب للانخراط في جميع مناحيه من (تطرّف) أو (جريمة) أو (مخدرات) وقد وقعت الإشارات الأولى، بدرجاتها المتفاوتة، بل زادت في الفترة الأخيرة وستزداد المشكلة في التنامي في السنوات اللاحقة ما لم يتم الحد منها بتدابير عملية فاعلة ومكثفة تستهدف عمق الجرح لا أطرافه، إذ «لن يتبدل ما في الأعيان إذا لم يتبدل أيضاً ما في الأذهان».