كثير من الكلمات نمر عليها من دون الإدراك لأصولها اللغوية مثل الجهاد والغائط فالأول هو استفراغ الجهد ولا يشترط القتال المسلح كما أن الثاني يعني المنخفض من الأرض. ومنها كلمة الصيام فالصيام في أصله اللغوي هو الصيام عن الكلام عندما نذرت مريم أن تصوم للرحمن فلم تكلم أنسيا، وهو أصعب بما لا يقارن من الصوم عن الطعام. والصيام ليس تعذيباً للنفس بل إعلاناً لولادة (الإرادة) ضد الغريزة فلم نرى قطاً صام أو عشبا انتحر، والإنسان يعمل الاثنين بكامل وعيه ضد غرائزه فيتفرد بين كل الكائنات التي أسرت في قفص الضرورات. تخضع الآلة لمبدأ القصور الذاتي، وتمسك الغريزة بتلابيب الحشرة، وتتفاهم النحلة مع رفيقاتها بالرقص فلم تعلن نحلة يوماً أنها مثقفة، ويركض فأر الحقل يسعى، فلم يدل بتصريح أنه مكتئب أو متشائم، ويتفرد الإنسان فيضحك الإنسان ويكتئب ويبكي على فقد عزيز، والعجول تمضي للذبح فترى الموت وهي تخور. الحرية ليست الإباحية بل الصبر أمام إسارالضرورات، والهبوط لا يحتاج لطاقة، ولكن الصعود يحتاج، والحضارة تقلع على أجنحة الروح، وتنكب على وجهها مع انطلاق الغرائز، ومن يملك نفسه يملك العالم، والغنى ليس ما نمتلك بل بما نستغني عنه، وكان سقراط يمر في السوق فيصيح متعجباً: يا إلهي ما أكثر الأشياء التي لست في حاجة إليها؟!.. الصيام إذا شريعة الأنبياء، وهو أسلوب غاندي في الجهاد المدني، وهو فوق كل هذا مطهر بيولوجي للجسم، وثبت علميا أن قلة السعرات الحرارية تطيل العمر. وهكذا ففي نقطة الصوم تلتحم الفلسفة مع الدين والسياسة مع البيولوجيا. وفي الصيام تتدفق الحكمة من القلب على اللسان. ولم يتنزل القرآن إلا في رمضان. ولم ينطق المسيح بالحكمة إلا بعد أن جاع أخيرا، وعرف أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكل كلمة طيبة تخرج من الفم.