كثيرة هي الدراسات التي تصدرها معاهد البحوث العلمية والطبية حول فوائد الصيام وقدرته الاستثنائية على شفاء العديد من الأمراض أو التخفيف من وطأتها ومنسوب خطورتها المرتفع، وهو ما يؤكد على أن الحديث النبوي الشريف (صوموا تصحوا) لا يتصل بزمان ومكان محددين ولا بالمسلمين وحدهم بل بكل أولئك الباحثين عن صحتهم الجسدية والروحية والنفسية في أربع رياح الأرض. ورغم أهمية الجانب الجسدي والصحي من الصيام فإن ثمة جوانب أخرى ليست أقل أهمية بأي حال، لا بل إنها تتجاوز في عمقها ودلالتها الجسد العارض لتنفذ إلى جوهر العلاقة بين الإنسان ونفسه من جهة وبينه وبين الآخرين من جهة أخرى. ففي الجانب الأول تتحقق للصائم لذة تفوق كل لذة محسوسة هي لذة الامتناع والمجانبة والترفع عن الغرائز التي تستثير الحواس وتدغدغها. وهو ما يمنح المرء شعورا عارما بالظفر والنجاح في امتحانه الصعب في الشهوات الزائلة للعالم المادي، تماما مثل ذلك الشعور العارم بالغبطة الذي انتاب يوسف عليه السلام وهو يخرج أكثر نقاء وجمالا من امتحانه الصعب مع زليخة وما ترمز إليه من إثارة وإغواء خلبيين. ثمة أيضا شعور ينتاب الصائم بخفة الجسد مقابل كثافته وثقله المرهقين في الأحوال العادية الأمر الذي يمكن الروح من الطيران الشفيف فوق فظاظة العالم ودنسة الأرضي. وهي ليست الخفة التي لا تحتمل، وفق كونديرا، بل الخفة الضرورية للتخلص من حمولة «البيولوجيا» الزائدة وكمعانفة الغامض والجوهري والماورائي. وليست مقولة سيغموند فرويد حول العلاقة بين الحرمان الجسدي والغرائزي وبين الإبداع والخلق الفنيين عبر ما أسماه بنظريه التصعيد أو التسامي سوى تأكيد جديد لمقولة «صوموا تصحوا» في جانبها الأكثر إشراقا وصلة بالتأليف الإنساني. أما الجانب الثاني فتصبح العلاقة مع الآخرين علاقة مودة وسريرة نقية وترفع عن الضغينة والجشع والاستحواذ. ففي الصوم تذوب الفوارق بين الطبقات والأجناس والمراتب المختلفة ويتحقق نوع فريد من الاشتراكية والعدالة والمساواة في قهر الذات وترويض اندفاعاتها الدنيوية الجامحة. وإذ يأتي شهر الصيام هذا العام في أوج القيظ فإنه يذكرنا بجذرة اللغوي الأصلي حيث رمضان مشتق من الرمض والحر الشديد، وحيث العطش المضني إلى الماء تقابله سعادة التعفف وارتواء روحي لا تتوفر مباهجه لغير الصائمين.