سنوات طويلة أمضاها صديقي الشاعر فتحي عبدالسميع في كتابة بحث حول عادة الثأر وارتباطها بمصر القديمة، لكني لم أر مظاهر فرحة على وجهه وهو يخبرني أنه بصدد اختيار ناشر عليه أن يقوم بتجهيز العمل وإخراجه بصورة جيدة. اكتست ملامحه بإرهاق عشرات من الشهور واظب فيها على جمع كل (وأي) معلومة بإمكانها أن تسهم في ثراء البحث. ومن باب إدخال السرور على قلبه اقترحت عليه أن يتقدم بمؤلفه للحصول على شهادة الدكتوراه، مما جعله يضحك (ضحكة انتبه لها جيراننا في المقهى) ظنا منه أنني أسخر، ففتحي الذي يعتلي قائمة كبار شعراء النثر في مصر لم يحصل على شهادة عالية وبالتالي لا يستطيع مجرد افتراض هذا الأمر! كان من الطبيعي أن يتهمني بالجنون خاصة وأنا أتعمد حذف ضحكته من مضبطة الجلسة وأحصي أمامه عددا من أسماء أساتذة الاجتماع والأدب لنختار من بينهم ثلاثة أشخاص لمناقشة الرسالة (البحث). أما فكرتي التي انتبه إليها فتحي، وتعامل معها بجدية -بعد ذلك- فهي تقوم على أنه من حق أي باحث (سواء كان غير جامعي أو من خريجي كلية أخرى تحول بينه وبين تقديم البحث إلى الكلية التي يرغب في الحصول على إجازة منها) أن يتقدم بعمله للجنة مناقشة يكون أعضاؤها من الأساتذة المتخصصين في موضوع البحث، ليعرض عليهم العمل بهدف تقييمه بموضوعية ومنحه الدرجة العلمية -إن كان يستحقها- على أن يتم هذا كله (كبداية) خارج الحرم الجامعي، بينما يتم نعت درجة الماجستير أو الدكتوراه ب«الشعبية» ليبدو التكريم رمزيا، بعيدا عن الصدام مع قوانين جامعاتنا التي تحرم مثقفين (غير جامعيين) من حقهم الطبيعي بتصنيفهم وفقا لاجتهادهم وعبقريتهم. بينما تطبيق الفكرة من شأنه أن يفتح باب المساواة في النظرة المجتمعية بين التعليم والثقافة، بل ويعلي من قيمة الأخيرة حين يتفوق أصحابها وهم يضيفون للمكتبة العربية ما يستحق الاطلاع، فأغلب الرسائل العلمية تكتب بلغة (جافة) تروّع القارئ، ولا يستفاد منها في شيء إلا أنها كانت الوسيلة التي حصل بها الباحث على لقب دكتور، بينما يستطيع المثقفون (ولا سيما الأدباء منهم) عرض مادتهم العلمية والمعرفية بأسلوب قادر على أن يجذب إليه رجل الشارع العادي خاصة عندما تطبع أعمالهم ويتم توزيعها. وعدني فتحي بدراسة الأمر، ووعدته بعرضه على من يهمه الأمر.. وسؤالي: هل ستفتح جامعاتنا العربية أحضانها لهذا المقترح وتطوره وهي تخصص له وقتا يفسح المجال لكفاءات حقيقية أن تظهر لتستفيد منها أوطان من واجبها أن تمنح من يستحق ما يستحق لتنهض به وتنهض معه؟! أم إن ضحكة فتحي التي يسخر فيها من جهده، وعرقه، وموهبته، هي ما سيبقى في نهاية المطاف فيتم وأد (مئات فتحي) ممن يخصبون المعرفة؟! من بيده الأمر هو صاحب القرار وبيد فتحي وأمثاله أقلام تمنح الشرف لمن يحملها، وتضع على رؤوس من يخذلها أكاليل العار!