غزة – محمد أبو شرخ منشورات إسرائيلية تهدد كل من يسكن المنطقة العازلة بالموت أسرة قُيد أفرادها وألقاهم الجنود الإسرائيليون في حفرة طوال الليل عندما يوشك قرص الشمس على الغروب تبدأ المناطق الفلسطينية المجاورة لطول الخط الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 48 بالتحول تدريجيا إلى منطقة أشباح، يلبس سكانها لباس الليل حتى قبل انتشار الظلمة فيسرعون إلى داخل منازلهم ، مصطحبين كل ما يحيط بهم من قلق، وتاركين أراضيهم الزراعية ساحة لحرب ليلية بامتياز بين جيش الاحتلال ورجال المقاومة، وحالمين بصبح جديد يحمل أمل الحياة أو أخبار من قتلوا في الليلة السابقة. بين المكان الذي تركنا فيه السيارة وبين بيت “أبو نسيم المصري” مائتي متر فقط، لكنها كانت كافيه لتدخل بعدها “الشرق” عالم سكان حدود قطاع غزة القصي. في الأفق القريب يمتد ما تبقى من أراضٍ زراعية نحو الشرق بلونها الأخضر الذي ينقطع فجأة تاركا التربة الصفراء بلا أي غطاء بعد أن جرفت مرارا وتكرارا من قبل جرافات ودبابات الاحتلال، والحدود بأسلاكها الشائكة وأبراج حراستها التي تطلق الموت كل ليلة باتجاه السكان تغلق الأفق البعيد، وكلما اقتربنا من بيت ” أبو ونسيم ” كانت مشاهد المنازل المدمرة أو شبه المدمرة تزداد بشكل تجعلك تستطيع عد المنازل السليمة على أصابع اليد الواحدة. نظرة الشك التي ملأت عيني “أبو نسيم” وهو يستقبل “الشرق” في بيته الصغير الذي لا يبعد سوى 800 متر عن الحدود، قبل غروب الشمس بساعة ، كانت كافيه لإيصال الكثير من الكلام، فبقدر ترحابه الشديد أن يقضي ضيف عنده سواد الليل بقدر ما كان متشككا في قدرة هذا الضيف على احتمال حجم ما يحمله القاطنون هنا من قلق، لذلك كانت كلماته صريحة “يا عمي أنصحكم ترجعوا وتنسوا فكرة موضوع البيات هنا الوضع خطير والإسرائيليين ممكن يكونوا في البيت في أي لحظة، وإذا غربت الشمس لا مجال للعودة”، وعندما أكدنا له أننا نعرف مقدار الخطر، وافق على مضض بشرط واحد أن ترحل الكاميرا قبل غروب الشمس لأن “فلاش واحد منها قد يعني قذيفة على منزله الصغير”. الساعة التالية لوجودنا في منزل أبو نسيم كانت حبلى بالضيوف من جيرانه الذين جاءوا محملين بالحكايات، وكأنهم كانوا في انتظار من يستمع لهم، لكن البداية كانت مع صاحب المنزل نفسه. “زخات الرصاص هنا كهبات النسيم في أي مكان آخر تأتي فجأة ودون إنذار، لذلك تحصد كل من في طريقها”، كان تشبيه أبو نسيم قويا لدرجة أن جاره أبو حمزة بدأ يذرف الدموع التي كانت تخبئ قصته مع “الرصاص القادم من الحدود”، قدم له أبو نسيم منديلا ورقيا ليمسح دموعه ثم أخرج من أوراقه منشورا تلقيه طائرات الاحتلال بشكل دوري على منازلهم، وأكمل “جميعنا مزارعين نشأنا في هذه الأرض منذ طفولتنا، لذلك تربطنا بها علاقة لا يستطيع كثير من الناس فهمها، صحيح أن عددا كبيرا من سكان المنطقة هجروها بعد إعلان الاحتلال إقامة المنطقة العازلة عام 2005، وتهديده كل من يسكن أو يزرع فيها بالاستهداف كما يظهر في هذه المنشورات، إلا أن الجميع حتى من رحل منهم لا يستطيع أن يترك أسبوعا يمضي دون أن يزوروا أراضيهم أو ما تبقى من منازلهم”. مع أول تكبيرات أذان المغرب القادم من بعيد جاء الدور على أبو حمزة في الحديث ل”الشرق” بعد أن أخذ نفساً عميقاً وبدأ بسرد قصته التي بدت مختزلة إلى أقصى حد “توجه جاري وصديق عمري في إحدى الليالي لاستكشاف مصدر صوت خرج من حديقة منزله التي كان بداخلها عدد من جنود الاحتلال ينصبون كمينا فيها فأطلقوا عليه النار وقتلوه بدم بارد لمجرد أن كشف أمرهم ، ولم يسمحوا لأحد بإنقاذه حتى فارق الحياة”. تتوالى القصص ولا تنتهي، تجمعها المعاناة والموت القريب من كل الساكنين هنا، لا تكفي أكواب الشاي الثلاثة ولا طعام العشاء الذي حضر على عجل لتحتويها، فعلى الجيران أن يغادروا لأن الليل ألقى بكل ردائه على المنطقة، والأمتار القليلة التي تفصل بين منازلهم قد تكلفهم الكثير. وفيما تبقى من دقائق قبل المغادرة كان أبو إسماعيل وعائلته أبطال الحكاية الأخيرة التي وإن كان الليل هو مسرحها الزمني كباقي الحكايات فإن برد الشتاء القارص وأمطاره أضافت عليها الكثير من المعاناة، فجنود الاحتلال لم يكتفوا باقتحام منزله ، وتقييده مع إخوته، بل أخرجوهم إلى ساحة المنزل وأجبروهم على النزول في حفرة عميقه قام الجنود بحفرها ليبقوا هناك طوال الليل الممزوج ببرودة شهر فبراير اللاذعة، في انتظار أن تأتيهم رصاصات أوحى لهم الجنود مرارا وتكرارا أنها قريبة جدا من أعناقهم. وبطول 41 كيلومترا على امتداد الحدود الشرقية لقطاع غزة يمكن أن تجد كثير من أمثال أبو نسيم وجيرانه، في بيت حانون وجباليا وجبل الريس وجحر الديك والفخاري وخزاعه والشوكة، لا مجال هنا للحياة إلا مع ترديد الشهادتين مع قدوم الليل وقبل النوم فالموت محيط بالأجواء، ولا مجال لمنزل أن يبقى دون بصمات الرصاص على الجدران، أو على جروح غائرة في قلوب من يعمرون المكان. منشور يتم إلقاؤه على سكان المنطقة الحدودية يهددهم فيه جيش الاحتلال إذا اقتربوا من الحدود منزل مهجور في المنطقة الحدودية بعد أن تم تدميره عائلة فلسطينية مازالت تقيم في المنطقة الحدودية