وصل إلى أنفها رائحة عطر خلابة طالما أحبتها كثيراً، ودون أن تتحرك من مكانها أدركت على الفور بأنه يتأنق كعادته لقضاء الأمسية مع رفاقه في (الاستراحة)، ذلك المكان البغيض الذي لم تكره شيئا مثلما كرهته، مكان خبيث، كريه، لا يُعلِّم قيمة الحياة الأسرية بل هو منبع اللامبالاة والأنانية التي تتأصل في مرتاديه يوما وراء الآخر، يستمتع فيه كل فرد بالنفث على الآخر بأصناف الدخان ويطلقون على ذلك حرية، ليأكلوا بشراهة إلى منتصف الليل وتنطلق الكروش في تحدٍ لا يتوقف، ولا يتحرر أحدهم من إدمانه إلا بعد إصابته بضغط أو سكر مفاجئ، من كثرة الموائد الدسمة… قطع أفكارها حين أطل برأسه في غرفة أبنائه، حيث كانت تُشغل نفسها بترتيب ومراجعة الواجبات المنزلية، وكعادته رسم على وجهه نفس الملامح الجادة التي ملَّت من مشاهدتها في كل مرة يغادر فيها المنزل، وقال بتصنع مبالغ فيه: عزيزتي أنا ذاهب أينقصكم شيء؟ أجابت دون أن ترفع رأسها: «سلامتك». وجهها كان مشبعا بملامح عميقة من الهزيمة والانكسار توسع وحفر داخلها أخاديد وأنفاق، عاتبت نفسها: ما الفائدة من ذلك السؤال العقيم الذي يكرره كل مرة (أينقصكم شيء؟)!، وماذا عساي أريد ولا يستطيع السائق إحضاره؟ ذهب للقاء شلة الاستراحة الذين يراهم يومياً دون حتى أن يسأل ماذا حدث مع العمال بالأمس، وبشكل تلقائي تحسست شاربها الذي كثيرا ما كانت تخشى أن ينمو في أحد المرات التي تضطر فيها للوقوف مع العمال لتصليح مكيفات أو أنابيب مياه، كان تبريره الدائم بأنه مشغول ومرتبط بعمله، وكأنها لا تعمل مثله، مع أن الوقت الذي يأخذ فيه غفوة بعد الدوام تقضيه هي في مراجعة وإنهاء واجبات أبنائهما، وجلب طلبات المدارس والمساعدة على تنفيذ بعض النشاطات المدرسية، فأصبح كل شيء مهمة السائق، ولكن تبقى أشياء لها عمق خاص لا يستطع السائق إحضارها أو تحقيقها، نفس الأشياء التي اعتاد هو على تجاهلها وكانت تحتاج منه أن يتفهمها، حيث كان يعتمد عليها بشكل مُرهق، ويكتفي بمسؤولية متطلبات «عزبة الاستراحة» التي أصبح حجمها في حياته أكبر من قيمة أبنائه وزوجته، كانت تتحاشى الاصطدام معه أو حتى معاتبته على تقصيره معها وأمام واجباته كأب، بعد أن كسر قلبها يوماً و صرح بأنه تزوج منها من أجل أن ينجب أطفالا لكي يُسعد والدته فقط، ليقع تصريحه عليها كالسهم المسموم ذلك الوقت ليقتل جميع تلك اللحظات الجميلة التي كانت تحلم بها. في صباح اليوم التالي كان الوجوم مسيطرا على وجهها، فلم تتمكن مساحيق الزينة من إخفاء ملامح الكآبة التي التصقت بها كالقناع، غادر إلى عمله وتركها تذهب مع السائق لتوصل الأبناء لمدارسهم كالعادة التي لم تعتد عليها بل مازالت ترفضها يوما بعد آخر، وصلت لمقر عملها و حين أوشكت أن تترجل من السيارة رأت زميلتها وهي تجلس في سيارة أمامها تضحك ملء شدقيها بل لا تستطيع تمالك نفسها من الضحك، وكأن على ما يبدو هناك حديث ممتع بينهما، تعالت ضحكات زميلتها التي كانت تحاول أن تكتمها بيدها وهي تقول، لقد تأخرت، واستمرت بالضحك تحاول أن تفلت يدها من قبضته، كان مُصرا على الإمساك بيدها هامساً بكلمات لم تصل إلى مسامعها، حاولت إطراق أذنيها بكل ما تستطيع ولكن لم تسمع شيئاً، فقط كان صوت زميلتها يقول» توقف أرجوك لقد انهمرت دموعي من الضحك، الناس تشاهدنا… « : قال لها: لا أكترث حبيبتي، ابقي معي دقيقة أخرى ….، حاولت أن تتأخر وأشغلت نفسها بالتفتيش في حقيبتها لكي تكمل بقية المشهد الذي شدَّها، لتشعر على الفور بشيء يضغط على صدرها ويكتم أنفاسها، ابتلعت ريقها وأخذت تفكر بصوت مرتفع: كيف خرج هذا الرجل من أفلام الأبيض والأسود؟ أيعقل أن يكون تمثيل الرومانسية في الأصل حقيقة وانقرضت ولا وجود لها الآن إلا في الأفلام؟! انتبه إليها الرجل في السيارة أمامها، فالتفتت زميلتها للوراء، ففتحت الباب على الفور لتخفي إحراجها مدت قدما خارج السيارة وقبل أن تخرج القدم الأخرى التفت السائق فاتحاً يده «مدام جيب فلوس بنزين» نظرت إليه بقرف لأنه لم يتركها تنعم قليلا بالمشهد الجميل الذي كانت تتابعه منذ لحظات وأعادها للأمر الواقع الذي تعيشه سريعاً، تحشرجت بغصة حاولت أن تسعلها ولكن أبت أن تخرج، غصة من ضمن مجموعة اعتادت على ابتلاعها واحده تلو الأخرى لتنهمر دمعة رفعتها على الفور بطرف إصبعها، وأكملت طريقها! في نهاية ذلك اليوم شاهدت نفس الرجل يقف أمام مدخل عملها ينتظر خروج زميلتها، وحين نظرت للجهة الأخرى كان كومار بانتظارها، فهبط كيس من الرمل الرطب على فوهة معدتها وكتم أنفاسها فعادت تتحسس شاربها بتحفظ، وكعادتها في طريق العودة أخرجت صورة له من الذاكرة لتبحث عن ملامح الإنسان الذي أحبت يوماً، ولكن لم تستطع أن تشعر بنفس الأحاسيس التي كانت تعتريها، مع أنه كان يسعدها في السابق العيش للحظات داخل مشاهد تحضرها من الجانب المزهر في عقلها، ولكن أصبح لا يحضرها مؤخرا سوى رائحة السجائر والشيشة التي تفوح منه باستمرار، وإذا نجت ملابسه يوماً من رائحة التبغ لا ينجو فمه المعبق من نشر تلك الرائحة المزعجة حين يلقي تحية المساء فجراً، ليصبح التظاهر بالنوم وسيلتها للهروب من مواجهة رائحة خيبة الأمل التي تنبعث من فم.. زائر الليل!