تعيش تونس هذه الأيام على وقع أحداث عنف متواترة تُحسَب على التيار السلفي، وإن كانت الحالة العامة في تونس تتسم بعدم الاستقرار الأمني والسياسي، فإن اتساع رقعة أعمال العنف التي تقوم بها هذه المجموعات خلق حالة من الخوف على السلم الأهلي في البلاد، خصوصاً في ظل حالة حادة من الاستقطاب السياسي بين الإسلاميين والعلمانيين. وكانت آخر هذه الأحداث وأكثرها عنفاً اشتباك المئات من السلفيين مع رجال الشرطة في بلدة جندوبة شمال غربي تونس مطلع الأسبوع الماضي وحرقهم لمركز أمني إثر مظاهرة نظَّموها للاحتجاج على اعتقال أربعة من رفاقهم بتهمة المشاركة في هجوم على محلات لبيع المشروبات الكحولية. ويطالب السلفيون بمنح الدين دوراً أكبر في الحياة العامة وباعتماد الشريعة الإسلامية أساساً للحكم ومصدراً رئيساً للتشريع القانوني في تونس، وكانوا استثمروا المناخ الديمقراطي الذي أعقب الثورة لنشر آرائهم ومعتقداتهم وتوسيع مساحة دورهم داخل المجتمع التونسي. وكانت حركة النهضة الإسلامية فازت في انتخابات أكتوبر الماضي بأكثر من 40 % من مقاعد المجلس الوطني التأسيسي المناط بعهدته إعداد دستور جديد للبلاد. وإثر هذا الفوز وظهور ما بدا على أنه مدّ إسلاميّ خاصة بعد صعود الإسلاميين إلى الحكم في عدة دول عربية مجاورة كليبيا والمغرب ومصر، فإن السلفيين زادوا من تحركاتهم بعدما رأوا أن ظهورهم محمية. وأثار مجمل هذه الأحداث والتطورات خوف قطاعات من المجتمع التونسي عبَّرت عنه جمعيات المجتمع المدني وقواه العلمانية والليبرالية إلى جانب القوى اليسارية، ومع تطور الأمور ظهرت ردود أفعال عديدة غاضبة من قِبَل عدة أطراف توازي مع توجيه أطراف سياسية من اليمين و اليسار أصابع الاتهام إلى حركة النهضة بالتساهل مع السلفيين والسماح لهم بتهديد قيم الحداثة التي يعيش في ظلها التونسيون منذ فجر الاستقلال. وراحت الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني والنقابات تزيد من ضغوطها في هذا الشأن، حيث حذَّر ناشطون حقوقيون من أن المجموعات السلفية «العنيفة والخارجة عن القانون» أصبحت تمثّل «تهديداً للحريات الشخصية» في تونس، وجاء التحذير خلال احتفال أقيم بمناسبة الذكرى ال 35 لتأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهي أعرق منظمة حقوقية مستقلة في إفريقيا والمنطقة العربية. الحداثيون: السلفيون ينشرون الرعب وقال رئيس الرابطة عبد الستار بن موسى إن «المجموعات السلفية العنيفة والخارجة عن القانون والفالتة من العقاب تصول تنشر الرعب وتعنّف النساء والمثقفين والصحفيين والمبدعين والنقابيين والسياسيين ومناضلي حقوق الإنسان مادياً ومعنوياً، وتعتدي على الحرية الأكاديمية وعلى المؤسسات التربوية ودور العبادة ومقرات النقابات والأحزاب السياسية مع ما رافق ذلك من توظيف للدين وتكفير للمواطنين وتخوينهم». ويمكن القول إن ردود أفعال حركة النهضة إزاء السلفيين بدأت ضعيفة ثم أخذت في التصاعد، ففي البداية رأت النهضة في السلفيين رصيداً انتخابياً هاماً خصوصاً أنهم لا يملكون حزباً سياسياً أو إطاراً تنظيمياً يتجمَّعون فيه، كما رأت فيهم حليفاً وفيّاً في ظل استقطاب سياسي وأيديولوجي حاد بين الإسلاميين وما يطلق عليهم في تونس بالحداثيين، إضافة إلى تعاطف النهضة معهم على خلفية ما كانوا يتعرّضون له من قمع وتعذيب في سنوات حكم زين العابدين بن علي. وفي ردّها على اتهامات الأحزاب والقوى الحداثية تقول حركة النهضة إنها لن تقوم بملاحقة هؤلاء الشباب والزج بهم في السجون كما كان يقوم بذلك الجهاز الأمني للنظام السابق، وإنها بصدد التحاور مع السلفيين لإقناعهم بضرورة التخلّي عن العنف. وكان رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي دعا السلفيين في تونس إلى القبول بقواعد الديمقراطية والانتظام في أحزاب سياسية والعمل القانوني. صبر النهضة بدأ ينفد إلا أنه ومع استمرار عمليات العنف وبدء تسلل خليط من الغضب والخوف إلى قطاعات واسعة من الناس في الشارع التونسي، بدأت حكومة حمادي الجبالي تصعّد في حدة خطابها تجاه السلفيين، فقال الجبالي في حديث بثته القناة التلفزيونية التونسية الرسمية الليلة الماضية إن حكومته «لن تسكت على العنف والاعتداءات التي تمارسها بعض التيارات السلفية المتشدّدة»، مؤكِّداً أن صبر حكومته بدأ ينفد، وأنها لن تتحالف مع الفئات التي تستعمل العنف والاعتداءات باسم الدين وتكفّر الناس. ومن ناحية أخرى، تعهّد وزير الداخلية التونسي علي العريض في رسالة مبطّنة إلى المجموعات السلفية المتشدّدة بتطبيق كامل لقانون الطوارئ من أجل ردع العنف الذي اجتاح مؤخراً عدداً من المدن في البلاد وفجر انتقادات واسعة تجاه المؤسسة الأمنية ملوّحاً باستخدام الرصاص الحي إذا لزم الأمر لاستتباب الأمن، وقال إن «قوات الأمن يمكنها استخدام الرصاص الحي في حال مهاجمة مؤسسات سيادية مثل ثكنات الشرطة». وأضاف الوزير في لقاء صحفي «من يعتقدون أنه من الممكن الاعتداء من دون التعرّض لعقوبة، على مؤسسات سيادية مثل ثكنات قوات الأمن عليهم أن يدركوا أنه في مثل هذه الحالات وكما ينصّ عليه القانون، يمكن استخدام الرصاص الحي». وفي محاولة لطمأنة الشارع التونسي قال العريض إن وزارة الداخلية ستبدأ بتفعيل السياسات الأمنية التي اقترحتها على الرئاسات الثلاث في البلاد وتمّت المصادقة عليها بعد تعديلات، وتشمل تلك السياسة بحسب الوزير تطبيقاً كاملاً وفعلياً لقانون الطوارئ مع ما يوفره من صلاحيات واسعة للتدخل وحماية المتدخلين وردع المخالفين. وكان وزير العدل في الحكومة التونسية نور الدين البحيري حذّر من أن «الفسحة» التي منحتها الدولة للسلفيين انتهت، واعتبر البحيري وهو قيادي في حركة النهضة أن السلفيين تجاوزوا هذه المرة «كل الخطوط الحمراء» في تعليقه على مهاجمة مجموعات سلفية حانات مرخّص لها في سيدي بوزيد، مضيفاً «لن نسمح بإقامة دولة داخل الدولة». وفي سياقٍ متصل، أدان «حزب التحرير» غير المرخّص له، والمحسوب على التيار السلفي، أعمال العنف التي قادتها جماعات سلفية متشدّدة، وحذّر من أن سلفيي تونس مدفوعون للعنف من جهات غربية، وقال الناطق الرسمي باسم الحزب، رضا بلحاج، في مؤتمر صحفي «إن ثبتت الأخبار المتعلّقة بالعنف السلفي فنحن نرفضها وندينها»، وحذّر من أن هناك أجندة وجهات تخترق الآن سلفيي تونس، الذين قال إنهم «قابلون للاختراق، لأنهم ليسوا مؤطّرين، وخليطا، وليس لهم وضوح ومنهج وقيادة». ويشير الواقع التونسي إلى أن السلفيين، وعلى عكس حركة النهضة، لم يتقنوا لعبة السياسة، وزاد في ذلك ما تعرضوا له في عهد النظام السابق من قمع و ملاحقة ورمي في غياهب السجون، وفي غياب التنظيم والرصانة في التعامل مع المتغيرات انزلقوا في عديد الأحيان إلى العنف ردّاً على استفزازات من قوى تدعي أنها حداثية ومدافعة عن حقوق الإنسان والحريات الخاصة، وقد يكون هذا بالضبط ما أرادته هذه القوى من السلفيين، أي أن يصبحوا منبوذين جراء أخطائهم في التعامل مع المشهد التونسي.