حياة المدنية التي نعيشها في الوقت الحاضر تجبرنا أحياناً أن نمضي ساعات طويلة خلف مقود السيارة يومياً، تحبسنا فيه عن ممارسة تواصلنا المعرفي إلا من خلال الاستماع للإذاعة كأفضل وسيلة معرفية وإعلامية آمنة ومسموح بها أثناء القيادة. في أيام الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، كان للإذاعة وقع كبير في نفوس الجماهير. كانت هي الطاغية بالشهرة بحكم أسبقيتها على ما لحقها من اختراعات إعلامية. وكان هناك حول العالم أصدقاء للإذاعة، أوفياء لها. يكتفون بالسماع دون الرؤية. ينصتون للجميع فيصادقونهم حتى ولو كان خلف الميكرفون «المُعيدي» نفسه الذي قالت عنه العرب أن تسمع به خير من أن تراه. أتى التلفزيون، ولكن لم يلغ الإذاعة، وأتى الإنترنت ولكن لم يلغ التلفزيون ولا الإذاعة. في وسائل الإعلام، لم ينسخ الجديد القديم. وإن كانت نافست غيرها على عقول الجماهير وقلوبهم. والسبب أن كل واحد منهم يسبح في فلك مختلف عن فلك الآخر. إلا أن فضاءنا كجماهير ازدحم وخياراتنا تعددت وتنوعت. وكل حواسنا استهدفت. فأصبح العرض غزيراً ووفيراً. وفيه غث كثير وسمين يسير. وهنا برز معيار الانتخاب الطبيعي بأن البقاء للأفضل دائماً. ليمكث ما ينفع الجمهور من وسائل إعلام في الأرض، ويذهب ما عداه هباءً أدراج الرياح. على مستوى الإذاعة، تأتي إذاعة دولة الكويت الشقيقة من وجهة نظري، كأبرز إذاعة عربية استمعت إليها. وقد يشاطرني الكثيرون نفس الرأي. وعلى من لا يعرف عنها شيئاً أو لم يستمع لها جيداً، أن يبحث عن موجة 1134 ليلاً وموجة 540 نهاراً، ويتابع جيداً ليعرف كم تحويه هذه الإذاعة من قيمة كبيرة. من خلال متابعتي الطويلة وشبه الدائمة لإذاعة الكويت أستطيع القول بأنها ليست إذاعة محلية تقليدية، بل هي أيضاً إذاعة معرفية من الطراز الأول، ما يميز إذاعة الكويت عن غيرها كثير. بل أعتقد أن الإذاعات الأخرى وبالذات إذاعتنا السعودية الغراء ببرنامجها العام في الرياض وبرنامجها في جدة ينقصها سنوات ضوئية حتى ترتقي إلى مستوى إذاعة الكويت مضموناً وأسلوباً. كل الإذاعات لديها حصص معينة من البرامج. لكن تظل إذاعة الكويت من وجهة نظري متميزة في كل شيء. فمثلاً برامجها الفكرية رائعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. برامج تحفز الذهن وتنمي الفكر. وتستقطب أفضل المفكرين والمثقفين من داخل الكويت أو خارجها في برامج حوارية مميزة. وكذلك الحال مع برامجها الثقافية. من يستمع لإذاعة الكويت لن ينسى برامج مثل: نافذة على التاريخ، الذي كان يقدم أبرز القصص التاريخية والسياسية بطريقة تمثيلية شيقة. وبتقديم نخبة من الممثلين الكويتيين الرائعين. وكذلك برنامج نجوم القمة، وذكريات منسية، والشعر والشعراء. وغيرها كثير. والقائمة طويلة لبرامج أخرى في كل فن ولون من حديث وقديم تأسر الألباب وتسلي الخواطر. صدقوني من يستمع لإذاعة الكويت، سوف يجد أنه مشدوه بها ومشدود لها طوال الوقت. ستتعلم أذنه الفرق بين الاستماع لها أو لبعض الإذاعات المفروضة عليه على موجات ال إف. إم التي ليس لديها سوى الترويج للأغاني الهابطة والتسويق للفنانين المغمورين. ومن المؤسف أن يجد المستمع نفسه على هذه الموجة بين إذاعة القرآن الكريم أو إذاعات غنائية مستمرة. في تناقض رهيب بين قرآن مجيد وغناء ماجن! ومن الأمور التي تستحق الذكر عن إذاعة الكويت، أصوات مذيعيها الشجية. فأصوات مذيعيها الرجولية تجدها جهورية، قوية، ومعبرة. أما أصوات مذيعاتها فتجدها حنونة ودودة عميقة وأنثوية. لا يوجد بين مذيعيهم أو حتى مذيعاتهم أحد يتكسر في كلامه أو يتغنج في طرحه. بينما تجد وكأن هناك منافسة بين بعض مذيعينا على الترقق في الكلام، ويشتد التنافس بينهم في «تخفيف حرف الراء» في كلماتهم بطريقة مقززة ومنفرة. أين هؤلاء المذيعون من غالب كامل صاحب الجاكيت الأسود وحبة الخال الظاهرة على وجنته، أو ماجد الشبل بطلته المهيبة على الشاشة، أو جميل سمان صاحب الابتسامة اللطيفة، أو عبدالرحمن الراشد معلق الرياضة المثقف، أو حتى سليمان العيسى في إشارته للكاميرا بسبابته في نهاية برنامجه الشهير «مع الناس». رحمهم الله جميعاً أحياءً وأمواتا، فكم كانوا رحماء بنا بأصواتهم وإطلالاتهم. ما الذي جعل الكويتيين يمتلكون إذاعة متميزة؟ الحرية. لا شيء غير الحرية. إذاعة الكويت هي نتاج الفرد الكويتي الذي تنفس عبير الحرية، وشرب كأسها دهاقاً. وتلك الكويت التي هي بحجم بعض الورد، هي كأثينا للعالم القديم. تجد في أبناء الكويت لو فتشت كما كان موجوداً بين أبناء أثينا، سقراط الحكيم وأفلاطون المثالي وأرسطو العالم السياسي. استمعوا لإذعتها وأنتم ستعرفون. قرأت مرة عبارة على روضة في مدينة الرياض أعجبتني كثيراً، تقول: «إن المعرفة التي نتعلمها من خلال المرح لا ننساها أبداً». من هنا أتصور أن تقديم فكرة منيرة أو معلومة مفيدة دون أي إجبار على المتلقي أو محاولة امتحانه بها هي أفضل السبل لجعله يتأثر ومن ثم يقتدي بها. إن الإعلام المعرفي سواء كان إذاعياً أو تلفزيونياً أو كتابياً أصبح ضرورة في الوقت الحاضر، لتقديم المعرفة المفيدة التي تزيد في صلاح الإنسان ونفعه لنفسه ووطنه. أختم بقصة معبرة، كنت أستمع للقاء رياضي على إذاعة الكويت مع لاعب كرة قدم سابق، فسأله المذيع عن رأيه بالشهيد الشيخ فهد الأحمد رحمه الله. فقال: والله كان البعض يقولون عنه أنه ديكتاتور لكن معي كان جيداً. على الرغم أن البرنامج كان مسجلاً إلا أن المقطع لم يزل. هل تتصورون هذا يحدث في مكان آخر غير الكويت، والشخص المعني شيخ وشهيد!