في مسلسل محلي موسمي شهير تتوجَّس المرأة خيفة من الرجل الذي يرافقها حين تعطَّل المصعد بهما فيطمئنها بأنه لن يعتدي عليها لأنه (إنسان)! وفي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام عن الثلاثة الذين احتجزوا في الغار يمتنع أحد الثلاثة عن الاعتداء على ابنة عمه ابتغاء وجه (الله). الأنسنة مصطلح فلسفي له تاريخ وجذور من قبل عصر النهضة حين كانت النزعة الإنسية ترى الإنسان معيار كل شيء ، وتعتبر البروتستانتية بوابة الأنسنة في العصر الحديث باعتبارها ركَّزت على الإنسان وآمنت بقدرته على الفهم وذلك كردّة فعل على سلطة الكنيسة، كما أن الوجودية تشكل مذهباً إنسانياً مغلقاً تجعل من الإنسان الخالق الوحيد للقيم ويرى الدكتور أحمد الطعان في كتابه العلمانيون والقرآن الكريم أن عبدالله القصيمي يمثّل النسخة العربية من «النيتشوية» المغالية في النظر للإنسان إلى حد تأليهه وتمجيد العقل الإنساني وإحلاله محلّ الوحي والإله. هذا اختصار شديد يراعي المساحة وأودُّ الانطلاق منه إلى الطرح الفلسفي المحلي الذي يعاني من إشكالية الرفض لسبب بسيط ومباشر ذلك أنه طرح (موظف)، بمعنى أنه طرح يتمّ توظيفه للقيام باجترار مفاهيم لها ظروفها الثقافية وإسقاطها على واقع مختلف دون بذل جهد فلسفي حقيقي، ولو تناولنا (الأخلاق) كمثال يتعلَّق بموضوعات الصحوة لتوضيح مجمل الفكرة. هناك جدل يحتدم حول دعوى احتكار الدين للأخلاق إذ يرى الخطاب الديني في جانب منه الربط الحصري للأخلاق بالتدين والإعابة على المجتمعات غير المتدينة أو تلك التي يتفشى فيها الإلحاد بكونها منحلة ولا تملك أدبيات أخلاقية، ويتم الرد عليه من قبل طرح ثقافي يرى في أخلاق المؤمن الإكراه عليها باعتبار أنها تنطلق من دافع الحصول على الثواب على العكس من اللاديني الذي يقوم بالخلق الحسن بدافع من (إنسانيته) دون التفكير بأخذ أي نوع من الأجر. يأتي الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في الوسط حين يعلن أنه بُعثَ ليتمم مكارم الأخلاق، وهذه الواقعية التي تعطي لجميع الأطراف حقَّها دون هذا الصراع على ملكية الأخلاق!، ويرى أحد المفكرين أنه يوجد ملحد على خلق لكن لا يوجد إلحاد أخلاقي وذلك عند النظر للأصول لا التطبيقات وذلك باعتبار الدين هو السابق على الإلحاد. قلت في أول المقالات إن الحراك الديني يكشف المجتمع بسائر أطيافه ويجلي طرائق التفكير المختلفة، وقد طرحت فكرة هذا الموضوع مع أحد الأفاضل المتخصصين في الشريعة فكانت إجابته أن هذه شبهات قديمة والردود عيها موثقة في كتب علماء الدين، لكنني لا أرى الأمر كذلك إذ رغم أن الأمر قديم لكن لغته (جديدة) وتحمل في مبناها معاني تستحق الالتفات إليها ومخاطبتها بلغة جديدة كذلك، فمن جهة تنبئنا أن المشهد الثقافي في جانب منه مازال مسكوناً بقضية الفصل بين الدين والحياة ومحاولة خلق فصام تعيس، ذلك أن إسقاطاته تمثّل اجتراراً لإشكاليات تنتمي للدين النصراني المحرّف وما تبع ذلك من حراك قائم على(الفرار) من المظلة الإلهية والانضواء تحت شعارات فلسفية يُكتفَى بنقلها دون حتى (الشك) فيها! ويمكن بسهولة التقاط لفظة (الكهنة) وإطلاقها على علماء الدين في الإسلام في مغالطة واضحة، حتى مع القول إن المقصود هو نقد المنتج التربوي الديني الذي خلق أجواء تقارب ما أفرزته الأفكار الكنسية فإن للمصطلحات وتوظيفها أثراً لا يخفى. وفي المقابل فإن المشهد الثقافي الديني في ناحية منه يعاني من حالة (ضبابية) لا تبصر الواقع والمحيط بطريقة جيدة بل تتسم بطرح غاية في الوثوقية على مستوى الأدوات المعرفية التي تكرّس (الإيمان الوراثي) القائم على التقليد فقط دون النظر لمخاطبة العقل الذي أصبح يدغدغ الكثير من طالبي اليقين وذلك على الرغم من أن أصول الفقه والقواعد الفقهية وعلم العقيدة تحوي من الفنون العقلية التي تخدم الإيمان ما يكفي لخلق إيمان عن قناعة لكن النمطية مازالت تهيمن على المشهد. إن خطابنا الثقافي إن أراد أن يكون نصيراً للنهضة المادية -المطلوبة ولاشك- فعليه أن يعي أن تلك النهضة تقوم بمفارقة أديان خاطئة أو محرّفة كما حصل في اليابان وأوروبا، هي ذات النهضة التي يمكن أن تقوم عند الالتقاء مع (الإسلام) شريطة بذل جهد فكري وفلسفي أكبر وأصدق يصب في صالح هذا اللقاء، ويجنب المجتمع هذا الشقاق حول الوعي المفقود في دهاليز حوارات صماء تسعى لتكريس (زمن دين بلا ثقافة) على حد تعبير أوليفييه روا.