لا أنسى أثناء دراستنا الابتدائية، كيف أن الحكايات الخارجة عن المناهج كانت تعتبر أفقا من مساحات الفكر الجلي نحلق بها، ونعتلي فوق مفرداتها لنستشعر أبعاد محيطنا، ومعاني وجودنا، وقيمة كلماتنا وأفكارنا. وقد ذكرني أحد الأصدقاء بقصة كان أحد المدرسين يرددها، والتي تركت أثراً عظيماً في أنفسنا، وضحكة لم نتمكن من كتمانها.تقول الحكاية إن وحوش الغابة قد اصطادوا فريسة سمينة، وأحضروها لعرين ملك الغابة، فصاح الأسد بالحيوانات أن يتقدم أحدهم ليقوم بتقسيم الفريسة بين الحاضرين. فتقدم الذئب، وقام بتجزئتها بالتساوي بين الموجودين، مما أغضب ملك الغابة، وجعله يضربه بمخالب يمينه ضربة عنيفة، أودت به جثة مكومة بينهم.ويزأر الأسد، ثم ينظر حوله مجددا، ويطلب أن يقوم أحدهم بتقسيم الفريسة، فلا يتقدم أحد منهم خشية أن يناله ما نال الذئب. فيغضب الأسد ويزمجر، ويصدر أمره للثعلب بأن يقوم بتقسيمها. فيفكر الثعلب، ويهرش ما بين أذنيه، ويحسب على أصابعه، وينظر للوجوه من حوله، ثم يقوم بتجميع اللحم الطري، الدسم، اللذيذ، ويقدمه بانحناءة للأسد. وبعدها يُقسم بقية العظام، والألياف البسيطة على الموجودين، فيضحك الأسد سرورا، ويسأل الثعلب: من أين أتيت بهذا الرأي المنشرح؟. فينظر الثعلب لجثة الذئب، ويقول: من هذا الذئب المنسدح!.ولعلي هنا أن أتحدث عن قلة اعتبار بعضنا بما يحدث حولنا، ومكابرتهم، وعدم احترامهم للأوضاع الصارمة القائمة، التي لا يمكن تعديلها. فمن المعروف أن مدننا السعودية أغرب مدن في العالم بخصوصية تجعل تحت كل عمارة بقالتها الخاصة، ومغسلتها، وحلاقها، وخياطها، وخبازها، ومحل كهربائي، وتبريد، وما سواها.وحتى أن الإنسان لم يعد يتعجب إذا وجد لوحة (تقبيل)، لمحل لم يتم تشغيله بعد.الكل يريد أن يكون تاجرا بسرعة البرق، وبطريقة ارتجالية، دون دراسة، ولا خبرة، ودون عظة، وحتى ولو كان موظفا، فهو يتحايل على القانون ليستخرج سجلا تجاريا باسم زوجة، أو ابن لا زال في مراحل الدراسة، ويدخل بكل إرادته للسوق، ليعاند ويختبر بطش الأسد، الذي لا يرحم.ومن الملاحظ أنه لا مكان للعبرة بيننا، فيدخل أحدهم المشروع صدفة، وبمجرد أنه قد رأى أو سمع عن مشروع مثله، فيأتي على فتات عمره، أو يحصُل على قرض، ويدخل بتهاون لسوق العمل.ثم تزول السكرة، وتأتي الفكرة، فلا يلبث أن يعرف ما ورط نفسه فيه، وأن السوق كالأسد الكاسر الظالم، لا يتمكن من النجاة منه إلا من اعتبر. وبالتالي فسرعان ما يتنبه صاحب المشروع، وتتضح له الصعوبات، فيبحث له عن لوحة يكتب عليها (للتقبيل لعدم التفرغ)، ويظل لما تبقى من فترة الإيجار يصارع الوقت، ويدعو ربه، ويكابر، ويصرف دسمه على إبقاء شمعة هذا المشروع متأججة، حتى يأتيه ذئبا غافلا، غير مقدر لما في هذا السوق من معضلات، وعقبات، فيشتري المحل، بخسارة على خسارة. ويظل المحل المنحوس، ينتقل من يد إلى يد، ومن مُقبل إلى مُقبل، والعبرة لا تحصل، مهما كثر المنسدحون.وتخيل معي مدى ما يتم إعدامه من موارد، ومن نقد في تلك المشروعات الصغيرة، غير المدروسة. وللأسف أن من يربح في تلك العمليات العشوائية، ليس إلا أصحاب العقار ممن يتطاولون في إجاراتهم، المعجزة لأي فكر اقتصادي. ويطول الربح أيضا أصحاب محلات الترميم والديكور، ممن يفرحون بالتقبيل، لمعرفتهم أن نشاط المشروع سيختلف، وبالتالي فالديكور سيتغير، حتى وإن كان جديدا، وسيطلب منهم تجديده، أضف إلى ذلك عمالة، (العلي بابا)، وهذا تعبير معروف في السوق للمحتالين منهم، ممن يطلبون من المواطن، فقط أن يفتح لهم المشروع باسمه (متسترا)، وأن يسلمه لهم بالكامل، ليقوموا بإدارته، وتشغيله، وأن يتفضلوا عليه شهريا أو سنويا بجزء من ربحهم، وما يلبثوا أن يتسببوا له بكارثة. ولا يمكن أن ننسى الرابح الأكبر في كل ذلك، وهي بنوكنا (الإسلامية)، الرحيمة، ومحلات التقسيط، التي بفتاواها تقصم ظهر المواطن، وتفتح له أذرع التهلكة ليأتي ويأخذ قرضا جديدا، ميسرا.المشروع، الذي لا يمكنك بنفسك أن تقوم بإدارته وتشغيله، لعدم التخصص، أو لعدم التفرغ، أو لعدم القناعة اجتماعيا، هو مشروع فاشل لا محالة، وهو طريقك للخسارة والديون، وللمساءلة القانونية. نصيحة مخلصة: ادرس مشروعك جيدا قبل البدء فيه، ولا تعتمد على تخصص غيرك، ولا تكن مجرد غافل ترمي بمجهودك، ومتوفرات عمرك للنار. للأسف فإن الذئاب المنسدحة كثيرة، والعبرة لا تحصل لأصحاب الأفكار المنشرحة.