يرى بعض الحريصين على اللغة العربية في العصر الحاضر أن سبب التخلف العلمي في العالم العربي الآن يكمن في عدم استخدامها في تدريس العلوم الحديثة، ذلك أن استخدامها -كما يحاجُّون- يجعل الطلاب أكثر استيعاباً لتلك العلوم، وهو ما سينتج لنا علماء مبدعين. ويؤيد هؤلاء آراءهم بأن اللغة العربية قادرة على التعبير عن المفاهيم العلمية. ويردُّون الاحتجاجَ بعدم توفر المصطلحات العلمية باللغة العربية بأن تلك المصطلحات لا تمثل في النصوص العلمية إلا أقل من 5%. ويلفت النظرَ أنه على الرغم من تهوين هؤلاء الفضلاء لمشكل المصطلحات العلمية إلا أن مجامع اللغة العربية المتعددة لا تكاد تنشغل، منذ أكثر من تسعة عقود، بشيء انشغالها بإيجاد بدائل عربية للمصطلحات العلمية الأجنبية. لهذا تُعقد المؤتمرات والندوات الكثيرة لوضع قواعد مضبوطة لصياغتها، وتنشر الأبحاث والكتب الكثيرة لترسم منهجية محددة لوضعها. وكنت كتبتُ بحثاً قبل سنوات بعنوان «المشْكِلُ غيرُ المشكلِ» جادلت فيه بأن صياغة المصطلحات العلمية لا تتطلب قواعد خاصة لصياغتها، فهي تخضع للقواعد المعهودة في اللغة لصياغة الكلمات بصفة عامة. ومؤدّى ذلك سقوط أحد المسوغات الموهومة لعقد تلك الندوات والمؤتمرات الكثيرة التي تسعى إلى وضع خطط لصياغة المصطلحات العلمية في العربية. والسؤال الآن هو: مادام أن المصطلحات لا تمثل مشكلة، وأن استخدام اللغة العربية في البحث العلمي ميسور، فما الأسباب التي تؤدي إلى تخلف البحث العلمي بأنواعه كلها في العالم العربي طوال العقود الماضية؟ وكنت أوردت في المقال السابق عدداً من الحجج العلمية والعملية ضد اتهام الباحثين العرب الذين يكتبون أبحاثهم بالإنجليزية، التي تعدّ الآن لغة البحث العلمي في العالم، بعدم الانتماء للهوية اللغوية العربية. وأودّ هنا أن أبيِّن أن اللغة، العربيةَ أو غيرها، ليست السبب في التخلف أو التقدم العلميين. وتمثل سورية، التي يشاد بجهودها في تعريب العلوم واستخدام العربية في تدريسها، أوضح الأدلة على هذه الحقيقة. ذلك أنها لم تتميَّز عن الدول العربية الأخرى بأي إنجازات علمية، على الرغم من ذلك الاهتمام الواسع. ومن أبرز الأدلة الأخرى على عدم مسؤولية اللغة، أي لغة، عن التقدم أو التخلف العلميين ما يوصف الآن بأنه تراجع علمي للولايات المتحدة. وهو موضوع يناقش باستفاضة في الأبحاث والندوات المتخصصة والمقالات الصحفية ووسائل الإعلام الأخرى، ويقارن ببعض الدول الصغرى التي تحقق تقدماً علمياً واضحاً. ومن ذلك ما كتبه بروس ألبرتس، أحد محرِّرِي مجلة ساينس العلمية الأمريكية، في مقالات تحريرية عدة، عن مسؤولية الطرق السيئة في تعليم العلوم في مراحل التعليم العام في المدارس الأمريكية عن ذلك التراجع العلمي. فقد أشار في مقال بعنوان «ابتذال تعليم العلوم»، (Bruce Alberts “.trivializing science education,” SCIENCE VOL 335 20 JANUARY 2012)) إلى أن الحرص على ما يدَّعى بأنه «صرامة» في تقديم المفاهيم العلمية الصعبة للطلاب في فترة مبكرة من حياتهم الدراسية، وما ينتج عنها من «اهتمام صارم بالقواعد والإجراءات والحفظ والتلقين»، يصيب الطلاب الصغار بالملل من دراسة العلوم، وكرهها، وهو ما يؤدي إلى انصرافهم عنها، ويوطئ في نهاية الأمر للتراجع العلمي الملحوظ. وترى شيلا توبياس، في مقال نشرته مجلة ساينس نفسها، بعنوان «تمكين مدرِّسي العلوم» (Sheila Tobias,”Empowering Science Teachers,” SCIENCE VOL 336 4 MAY 2012) أن النظام الإداري التعليمي في الولاياتالمتحدة لا ينتقي مدرسي العلوم المتميزين الذين يستطيعون تقديم العلوم إلى الناشئة بكفاءة. وتُعيد ذلك إلى أن مثل هذا الانتقاء يتطلب تكاليف مادية باهظة لا تفي بها الميزانيات المتوفرة الشحيحة. وتقارن توبياس ذلك بالطرق الدقيقة الصارمة التي تختار بها السلطات التعليمية الفنلدنية مدرسي هذه العلوم والامتيازات الكريمة التي تبذل لهم. وتستولي مقارنة الوضع التعليمي في الولاياتالمتحدة المتراجع بالنظام التعليمي المتفوق في فنلندا على اهتمام كثير من الباحثين. ومن ذلك المراجعة الطويلة التي كتبتها ديانا رافيتش لبعض الكتب عن هذا الموضوع، ونشرتها مجلة «نيويورك لمراجعة الكتب» في جزأين. وعنوان المراجعة الأولى: «مدارسُ يمكِن أن نَغار منها»، Diane Ravitch, “Schools We Can Envy,” The New York Review of Books, March 8, 2012. والثانية: «كيف نصلح المدارس، وكيف لا نصلحها» “How, and How Not, to Improve the Schools,” NYRB, March 22, 2012. وتتضمن المراجعة، بجزأيها، وصفاً مفصلاً لما تتميز به المدارس الفنلدنية من بنية داعمة وجو دراسي ذي مواصفات راقية تُنتج تعليماً متميزاً، مقارنة بالبيئة الطاردة لمثل هذا التميز في المدارس الأمريكية. وتشارك وسائل الإعلام العامة بالمقالات الصحفية الكثيرة والندوات التلفزيونية في تشخيص هذا التراجع العلمي للتعليم الأمريكي. ومن ذلك ما كتبه الصحفي الأمريكي وليم فاف، عن بعض أسباب هذا التراجع، ويأتي في مقدمتها ما وصفه ب»الجهل الناتج عن انهيار نظام التعليم العام» («أمريكا في حالة أفول»، الاتحاد الإماراتية، 17/ 4/2012م). ومن البرامج الحوارية الأخيرة عن هذه القضية حلقة من برنامج «لقاء العقول» Meeting of Minds عرضته قناة CNBC الأمريكية مساء 15/4/2012م، وشارك فيه عدد من مديري الجامعات الأمريكية، وعدد من المفكرين الأمريكيين البارزين، ناقشوا فيه تراجع الولاياتالمتحدة في العلوم. وكان هناك ما يشبه الإجماع على أن هذا التراجع يعود إلى أسباب تعليمية واجتماعية واقتصادية. والمهم في الأمر أنه لم يُشِر أحد من أولئك الأمريكيين الذين انشغلوا بتشخيص هذا التراجع إلى اللغة وعدِّها عاملاً في هذا التراجع. ويحدث هذا التراجع العلمي الواضح مع أن اللغة الأولى في الولاياتالمتحدة هي الإنجليزية التي تستخدم عالمياً في البحث العلمي. وهذا من أوضح الأدلة على أن اللغة ليست مسؤولة عن التقدم أو التخلف العلميين، لا في العالم العربي ولا في غيره. ومحصلة القول أن التخلف العلمي في العالم العربي لا يعود إلى عدم استخدام اللغة العربية في تدريس العلوم والطب والنشر العلمي بها بقدر ما يعود إلى أسباب حقيقية تتمثل في مظاهر التخلف الأخرى، كالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتعليمي. فمن الأفضل، إذن، أن يهتم العرب بمعالجة الأسباب الحقيقية التي ينتج عنها التخلف العلمي، بدلاً من التباكي على الهوية اللغوية، وعقد المؤتمرات الكثيرة عنها، والانشغال الذي لا يكاد يتوقف بقضية المصطلحات، والأساليب اللغوية العلمية، وبنيَّات الطريق الأخرى.